للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جسده كانت تشع بنورها على أوروبا كاملة وهي بلاد الأندلس، وقُضي على المسلمين فيها بصورة بشعة، وطاردوهم عبر محاكم التفتيش ذات التاريخ الأسود، وحاولوا طمس معالم الإسلام أينما وجدوها ما عدا العلوم النافعة لهم، وبذلوا كل ما يستطيعون من أجل تشويه صورة الإسلام في عقول شعوبهم، وسُدّت كل منافذ الدعوة إليه، وحُرم الأوربيون من التعرف عليه.

إلا أن التاريخ لن ينسى أثر الأندلس المسلمة في يقظة أوروبا النصرانية، ولن ينسى بأن الأندلس مع أختها صقلية وغيرهما بقيتا من القرن العاشر الميلادي إلى نهاية الثاني عشر تقريبًا مركز الإشعاع لهم ونقطة الاتصال بالحضارة الإسلامية. وإنما ذكّرت بهذه الحقائق لأن أصحاب الكتاب السابق حاولوا إغفالها بقولهم: "إن أهمية العمل الذي تحقق سابقًا -أي: في القرنين الحادي عشر والثاني عشر-، وتراجع الإسلام في إسبانيا، وبذات الوقت تصاعد المسيحية؛ كل ذلك غير إلى حدٍ ما في القرن الثالث عشر سمة المركزين الكبيرين للترجمة: إسبانيا وصقلية، وبدلا من استقبال الثقافة العربية بشكل سلبي خالص، قام نوع من النشاط الخلاق بفضل تأثير ملكين متنورين: فريدريك الثاني وألفونس العاشر ملك قشتالة" (١). فهم يغفلون المجازر الوحشية التي حدثت للمسلمين، ويصورون المسألة كأنها فقط تراجع للإسلام وتقدم للمسيحية، وكأن المسألة تمت بتحول طبيعي وسلمي.

وقد تحدثوا عن أثر الملكين المتنورين الهام في نقل العلوم من بلاد المسلمين إلى أوروبا ودمجها بالحياة العلمية والثقافية، إلا أنه لا يخفى بأن ملوك أوروبا آنذاك ومن خلفهم رجال الكنيسة كانوا يتحركون باتجاهين: أحدهما: قيادة الحروب الصليبية ضدّ المسلمين، والثاني: ترجمة علوم المسلمين إلى لغات شعوبهم. ومن ذلك ما قام به "فريدريك" من مراسلات "لملوك الشرق" للاستفادة مما عندهم من العلوم، ورعايته لمجموعة كبيرة تتقن العربية من العلماء ليترجموا له علوم المسلمين، وأغلبهم ممن درس في بلاد المسلمين أو عاش فيها، ومن أشهرهم "ميشال سكوت" و"ليوناردي بيزا"، ويظهر أن هذا الملك قد فتح عيون أوروبا لطريقته، فقاموا بفتح بعض نوافذهم لاستقبال شمس الشرق كألفونس


(١) تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص ١٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>