للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن هذه الهيبة التي كانت للكنيسة قامت على الكذب والظلم والجهل، والناس عادة وإن هابوا مثل هذه المؤسسات التي تتصف بما سبق فإنهم في داخلهم يمقتونها ويكرهونها ويفرحون بالخلاص منها يومًا ما، وهذا ما حدث تدريجيًّا في أوروبا مع المؤسسة الكنسية.

يجعل التيار العلماني من حدث إحراق "برونو" رمزًا للبطولة، ويستلهمون منه حججهم في الدفاع عن العلم في مواجهة الدين، ويتناسون أن الدين الحق لم يُمثّل في هذه الحادثة، وأن حادثة الإحراق كانت شائعةً في أوروبا، فلماذا تناسوا الدفاع عن بقية المحروقين إلا لهوى في النفوس، مع العلم بأن الإعدامات بصورها المروعة ظَلَّت تمارس حتى مع الأنظمة العلمانية المدافعة عن العلم والعلماء كما يقال (١)، ولا يعني هذا تبرير جرائم الكنيسة في حق الأبرياء بقدر ما يعني عدم السماح للعلمانيين باتخاذ مثل هذه الحوادث فرصة لمعاداة الدين بحيث يخلطون دين الحق مع أديان الباطل.

لا شك أن حدث إحراق رجل تعرفه أغلب أوروبا كبرونو سيكون له صداه الواسع في المجتمع الأوروبي، وسيبدأ الناس مناقشة سبب إحراقه. وكونه دافع عن نظام كوبرنيكوس الفلكي؛ فهذا الحدث سيدفع بهذا النظام الفلكي إلى الساحة الثقافية وسيتحاور الناس حوله بكثرة.

وهذا الحدث أيضًا أدخل الكنيسة في مأزق، فهي إما أن تثبت صحة كلامها في نفيها النظرية الكوبرنيكية أو تترك ذلك لأهل الفلك، وهم الأعلم في هذا الباب، ولا شك أنها كانت في حاجة إلى دعم من علماء الفلك لحفظ ماء


= المنحرفين تهيئهم لاستثمارها، فالماديون يرون بأن نظريات الفلك الحديثة تثبت عدم الخلق للكون وعدم وجود الخالق، وأن نظريات نيوتن تثبت عدم الحاجة إلى الاعتقاد القائم على أن الرب سبحانه يحفظ الكون ويدبره من السماء، وأن نظرية داروين تثبت أن الإنسان والكائنات الحية وجدت صدفة عن طريق الطبيعة والمادة، وهكذا، وهذا مما نفّر أهل الأديان منها فضلًا عن احتياطات المسلمين حولها.
(١) مما يذكر في هذا الباب أن الثورة الفرنسية الداعية للعلمانية وحقوق الإنسان والمدعية للعلم قد أعدمت الكثير بما في ذلك طائفة من المفكرين والعلماء عند مخالفتهم لها سياسيًا، انظر: تاريخ الفكر الأوروبي. . . .، رونالد ص ٢٧٧ وما بعدها، وممن سجنته الرياضي والفيلسوف "كوندورسيه"، وقد وجد ميتًا في السجن، انظر: موسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي ٢/ ٣١٥ - ٣١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>