حافظ "زكي" على مبادئ معينة من مرحلته الوضعية، أبرزها أن الحقيقة لا توجد إلا في العلم، وهي إما استنباطية كالرياضيات أو حسية استقرائية كالطبيعيات، ويكون العلم في النهاية إما الاستنباطي أو الاستقرائي، أما الدين فهو لا ينتمي إلى العلم، ولكنه موجود فأين نضعه؟ بما أن الإنسان مكون من عقل ووجدان، فيكون حظ العقل العلم وحظ الوجدان الدين، الوجدان هو فضاء الدين والأدب والفن وكل ما ليس بعلم.
ويجد أن التقسيم:"العقل والوجدان" يرفع مشكلة التعارض، فالعلم لا يقبل إلا بما يمكن أن نتأكد منه؛ أي: بما يقبل التحقق، أما الوجدان فيقبل ما نرتاح إليه، حتى وإن لم نجد وسيلة للتحقق من صحته.
وهنا يختفي التعارض لا لعدم وجوده وإنما لاختلاف المجالين، فلا يقال مثلًا بأن الأدب والفن يتعارض مع العلم؛ لأن أصحابها إنما يعبرون عن مشاعرهم، ولكن "زكي" لا يبين لنا الفرق بين الدين وهذه النشاطات الوجدانية، لو كان الدين تعبيرًا عن المشاعر لجعلناه في قسم الوجدان ولكنه ليس كذلك، إنه أخبار وشرائع وعقائد جاء بها الوحي. قد يأتي موضوع علمي يخالف مجال الآداب والفنون فلن تجد من يعترض وينكر ذلك، سيقول الجميع باختلاف المجالين، ولكن لو جاء ما يوهم التعارض مع الدين فلن تجد من يسكت؛ لمجيء ما يُصادم ما يعتقده الإنسان من إطار للتصور والعمل، فهو أتى بحل يزيد من المشكلة ولا يحلها، هذا إن كان هناك مشكلة. يقول:"الإنسان يعش في حياته الإدراكية في دائرتين -دائرة العقل ودائرة اللاعقل- اللاعقل هذا يشتمل على مصادر فرعية كثيرة، من بينها ما ذكرته من فن وأدب ودين وغير ذلك. أما دائرة العقل فتنحصر فقط في ما يمكن أن يخضع لقوانين الفكر والاستدلال .. أكرر أن محتوى الدائرة الثانية يعتمد على إدراكات مباشرة، فورية؛ ففي الدين، الإدراك إيماني وليس برهانيًا. إذا قيل لك هنا إن الله موجود، ففي إمكانك أن تصدق وتؤمن، من غير أن تطلب برهانًا على ذلك. هذا إيمان -هكذا أيضًا الأدب والفن: تعطي لوحة أو قصيدة، ففي مثل لمعة البرق تتعلق بها أو تنفر منها. . . ."(١).
(١) طريقنا إلى الحرية، زكي نجيب محمود ص ١٣٤ حاوره "أحمد عثمان".