للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومع ذلك تبقى الرؤية العامة لهذا المفكر متأثرة بدعوى شمولية العلم وقدرته على تغطية كل المساحات أو أغلبها، حيث بقي جانب النظام في الحياة موكولًا للعلم، بينما الجانب الوجداني يمكن أن يدخل فيه الدين مع غيره من الأمور الوجدانية، وواصل الثبات على الدعوة للعلمانية وإنْ بصورة أقلّ حدّة من سابقيه (١)، فحصر دور الدين في تقديم "المبادئ الأساسية التي نسلك على هداها، والتي من شأنها أن تبلور لنا رؤية خاصة، وموقفًا معينًا من الكون والحياة بصفة عامة" (٢)، فهو يُضيق من شمولية الدين ويوسع من شمولية العلم، ومع كل هذه التحولات لهذا الكاتب نحو تخفيف غلوّه الوضعي فقد بقي معه من آثارها أن بقي العلم الحديث هو المقدم، والعودة للدين تكون عند الحاجة.

أعطى للعلم مطلق ثقته وأعطى للدين مساحة ضيقة تتبع الوجدان، وحاصل الحال أن الحياة تُركت للعلم وأبقى جزءًا ضئيلًا للدين، ويكون دور الدين -في المرحلة المتأخرة من فكره- مع هذه الحضارة المادية التي تطغى على حياتنا المعاصرة هو إعطاء القيم، بينما حقيقته أوسع من ذلك، إنه يشمل الإنسان كله، قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢)} [الأنعام: ١٦٢]، ذكر "السيوطي" في "الدر المنثور": "عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: وددت أن كل مسلم يقرأ هذه الآية مع ما يقرأ من كتاب الله" (٣). وقال "الثعالبي" في تفسيره: "وفي إعلان النبي - صلي الله عليه وسلم - بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله - عز وجل -" (٤). فالمحيا يكون بكل ما فيه لله سبحانه، إما أنه لله؛ أي: لوجهه سبحانه، أو أنه لله؛ أي: ملك لله (٥)، وبهذا يكون الدين شاملًا لحياة الإنسان؛ لأن الإنسان هو ملك لله وعليه تبعًا لذلك أن يعيش وفق دينه الذي أمره به.

قد يلحظ الباحث التقلبات حول العلاقة بالدين مع التيار التغريبي المهتم بالعلم وفلسفته، فمع الجيل الأول كانت هناك أوهام بزوال الدين وتوحد العلم


(١) انظر: المرجع السابق ص ١٣ وما بعدها.
(٢) قيم من التراث، د. زكي نجيب محمود ص ٣٣١.
(٣) الدر المنثور. . . .، السيوطي ٦/ ٣٠٦.
(٤) تفسير الثعالبي ١/ ٥٢٣.
(٥) انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٣/ ١٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>