تلك الفئات مجموعة اعتنقت الدارونية في أقبح صورها، وروّجت لأسوأ ما فيها، مدعية بشكل قطعي أن هذه حقائق علمية ستكون بديلًا عن الدين.
كان هذا الحدث في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في وقت لا يوجد تيارات كبرى تتبنى الدعوة لها، أو أحزاب سياسية تجعل ذلك من ضمن أنشطتها، كما لا يوجد مجتمع قابل لمثل هذه الآراء يستطيعون الحركة فيه بيسر وسهولة، بل لا يتصور أحد إمكانية حركتهم في المجتمع الإسلامي بمثل تلك الأفكار، إلا أنهم مع ذلك نجحوا في إثارة الجدل ونشر أفكارهم وإشغال الفكر لأكثر من نصف قرن عبر ما اصطلح عليه آنذاك بـ"النشوء والارتقاء"، فكيف حدث ذلك؟
التنظيمات الوحيدة التي لها نشاط في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر هي "المحافل الماسونية"، فكانت إلى حدٍ ما الميدان الوحيد لاستقطاب أصحاب الأفكار الشاذة ودعمهم آنذاك، ومع ذلك فنشاطهم محدود بالنخب من قادة سياسيين أو اقتصاديين أو عسكريين، وهي دائرة مغلقة لا تتصل بالمجتمع. إلا أن هناك منفَذَين مهمين ظهرا في تلك المرحلة، هما:"المدارس العصرية" التي أنيط بها تحقيق المعرفة بالعلوم العصرية المهمة، و"الصحافة". فانخرط هؤلاء المتأثرون بالمذاهب الغربية الشاذة في المدارس العصرية لمعرفتهم بلغة أجنبية وتحصيلهم بعض المعارف العصرية، إلا أن نطاقها محدود في طلاب المدارس رغم أهميتهم، لهذا جاء العمل الفعلي عبر الصحافة، حيث كانت الصحف الأبرز آنذاك تحت إدارة مجموعة من النصارى العرب، ولم تكن الصحافة في تلك المرحلة صحافة أخبار بقدر ما كانت صحافة أفكار، وكانت الأفكار الجديدة التي فتحت لها صفحاتها هي أفكار المتأثرين بمذاهب غربية وعلى رأسها الدارونية. وإذا كانت صحافة أفكار فإن الفكرة التي طغت على تلك الصحافة هي "الدارونية -التطورية- النشوئية" في المقام الأول وكل ما له ارتباط بها.
وقد سبق في مبحث الأسباب ذكر دور الصحافة في نشر الدارونية (١)، وإشغال القراء بها، حتى وصل الأمر بتحويلها كرؤية جديدة توجه فكر طائفة من المفكرين.