للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الحال يُبصّرنا باستحالة عيش الناس دون دين مهما وقع منهم من ضلال وإلحاد، وأن العطش الناتج عن موجات الإلحاد يولّد ميلًا جارفًا يجعلها تتعلق بأي رابط يربطها بالدين، ومما نجده على مستوى الفكر الغربي في هذا الميدان ما قام به كانط "لصد موجة الإلحاد الكامنة في المذهب العقلي الذي بدأه "بيكون" و"ديكارت" وانتهى في شك "ديدرو" و"هيوم" وأسفر مجهود "كانت" بأن أعلن قصور العقل في ميادين المشاكل والبحوث السامية. ولكن "دارون" بغير قصد و"سبنسر" بقصد ووعي عادا وجددا هجمات "فولتير" وأتباعه على الدين والإيمان القديم، وعادت النزعة المادية الآلية. . . ."، فتصدى لها "برجسون" بمذهبه الحيوي بما فيه من نزعة صوفية جديدة (١)، وقد ذكر "راندل" صور هذا الأخذ والرد بين المجال الديني والمجال الفكري والعلمي لهذه المرحلة فقال: "وجاءت النزعة المثالية واتجاه التأكيد على البنية الكلية العضوية في أواخر القرن التاسع عشر عقب النزعات المادية والاسمية الذرية لعصر التنوير، وذاع إحياء التقاليد المسيحية في القرن التاسع عشر، عقب النزعة الربوبية والنزعة الإلحادية المتحمسة، ونزعة الشك التي كانت تظهر بين الحين والحين ونزعة معاداة رجال الدين في القرن الثامن عشر. خلاصة القول: إن التحول إلى الأذواق الرومانسية هو أحد الأمثلة الكلاسيكية للتحول السريع في كثير من أطوار الثقافة" (٢)، ويذكر أيضًا صورة التسوية الفكتورية التي سمحت بميلاد إحياء مسيحي كبير وميلاد جماعات مسيحيّة جديدة، وانتشار النشاط التبشيري المرافق لحركة استعمار جديدة شملت أغلب أراضي العالم، ولم يعد بإمكان العناصر القائدة إعلان موقف عداء صريح من الكنيسة وإلا تعرض مستقبله السياسي لخَطَر (٣).

ومن صور هذه التحولات من الإلحاد إلى الدين ما نجده أيضًا مع المذهب الوضعي الذي زعم لنفسه إلغاء الدين والميتافيزيقا وميلاد دين العلم، نجده في نهايات القرن بعقيدته "العلموية" مرفوضًا من تيارات الفكر الفرنسية القوية،


(١) انظر: قصة الفلسفة ص ٥٧٠ وما بين القوسين بنصه.
(٢) تشكيل العقل الحديث ص ٢٣٠.
(٣) انظر: المرجع السابق ص ٢٤٧ - ٢٥٠ بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>