للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"هوسرل"، وتهتم بالبناء اللغوي مع البنيوية وابتعدت كثيرًا عن التيارات العلموية وإن لم تبتعد عن الإلحاد (١)، وهناك غير هذه التيارات، والمقصود عرض ما يدل على مثل هذا الانعطاف، والابتعاد عن المادية والعلموية، ومع ذلك فالكثير من التيارات الفكرية وإن هجر المادية فما زال يخوض في مستنقع الضلالة، ولكن المؤشر المهم هنا هو هجر الدعاوى العلمية القديمة لإثبات الإلحاد، ومن بقي منهم على هذا الوباء فمستنده من خارج العلم.

خاتمة: لم الانقلاب على العلموية والوضعية والمادية؟

لو اكتفينا بالتيارات الكبرى المعارضة للوضعية والعلموية والرافضة لاستفراد النظرة العلمية بالساحة مثل: "البرجسونية والبراجماتية والوجودية والمثالية والكانطية الجديدة وفلسفات الميتافيزيقا الجديدة وغيرها"، وأبرزنا هذا التساؤل: لماذا انقلبت كل هذه التيارات على النزعة العلموية؟ ربما سيكون من بين أهم الأجوبة بأن النظرة العلمية لم تحقق للإنسان سعادته ولم تلبِّ رغباته وطموحه، وظهر وكأن التعاسة مرتبطة بتقدم العلم عندما يتقدم دون قيم عليا ترعاه وتجعله في خدمة الإنسان. وربما من بين الأجوبة المهمة بأن العلم نشاط بشري محدود الإمكانيات، يقبل التوظيف والتلاعب، ويعتريه الخطأ والصواب، والنقص فيه صفة لازمة كما هي خاصية لكل مخلوق، وبقدر ما تنفتح أبواب لم تكن معروفة عند من سبقنا بقدر ما تنفتح أضعافٌ مضاعفة من مساحات الجهل (٢)، وأصبح الاكتشاف وكأنه اكتشاف لغابة كبيرة من الألغاز بدل أن يكون جوابًا لسؤال أو حلًا لمشكلة، لقد اكتشفنا الذرة فهل أُقفل الباب؟ الحقيقة أن هذا الاكتشاف قد أوصلنا إلى غابة كثيفة من الألغاز. وقد اكتشفنا الخلية فهل وصلنا إلى النهاية؟ الجواب: لا. وإنما ظهر لنا عالم عجيب من الكائنات لا يعلم بحقيقته إلا من خلقه وأوجده. وهاهي المركبات الفضائية تسبح في الفضاء فهل أُقفل الباب؟ والجواب: لا. وإنما أرتنا فقط جزءًا من حجمنا الضئيل في


(١) انظر حول "الظاهرية": المرجع السابق، بوشنسكي ص ٢١٩، وانظر حول "البنيوية": مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص ٤١١، ونظرًا لشهرة هذه المذاهب في الفكر العربي المعاصر وكثرة تعريف العرب بها فقد اكتفيت بالذكر المختصر لها، مع العلم بأن كل تيار منها كان له دعاته في العالم الإسلامي.
(٢) انظر البحث الرائع في كتاب: حبات المعرفة، د. محمَّد التكريتي ص ٤٣ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>