للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العلم. وبمعنى أن ما تقوله هذه الكتب عن نشأة الكون وتشكل الظواهر الطبيعية لا ينبغي أن يؤخذ على حرفيته الظاهرية، وإنما ينبغي أن يقرأ على سبيل المجاز الرمزي، فالكتب الدينية ليست مختصة بالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والرياضيات، وإنما هدفها هداية الإنسان إلى الطريق المستقيم. . . . إلى أن قال: "نعم لقد عانت الشعوب الأوروبية في الماضي من محاكم التفتيش السيئة الذكر وملاحقة رجال الدين للعلماء واشتباههم بهم واضطهادهم؛ ولهذا السبب دفعت الأصولية المسيحية الثمن غاليًا فيما بعد وتخلى الناس عنها واتبعوا طريق العلم. وإذن فإن التزمت المسيحي هو الذي دفع الناس إلى الابتعاد عن الإيمان" (١).

فهذه صورة عما يشعر به عالم من علمائهم تجاه كنيستهم، وأنها كانت السبب في سوء العلاقة، ومحاكم التفتيش التي يتحدث عنها كانت نموذجًا للطغيان المعرفي والعلمي، فهي تمنع من أي معرفة تخالف ما في لاهوتهم الضال وكتبهم المحرفة، وهي المحاكم التي أسسها البابا "أنوسنس" الرابع عام (١٢٥٢ م) وبقيت تعمل لأكثر من خمسة قرون (٢)، وتُذكر أعداد كبيرة ممن أحرقتهم أحياءً أو عذبتهم حتى عادوا إلى طريقتها الضالة. ومع أن رواد الثورة العلمية وأصحاب نظرية الفلك الجديدة كانوا من رجال الكنيسة أو من العاملين في بلاطها أو من المعتنقين للنصرانية وبحماس ظاهر؛ إلا أنهم مع ذلك كله قد عانوا منها ومن محاكمها فكيف بغيرهم، ومنهم من أحرق كـ"برونو"، ومنهم من تعرض للمحاكمات المطولة، ومنهم من تعرض للتعذيب والسجن مثل "جاليليو"، وقد سبق الحديث عن معاناتهما في الفصل الأول، وهناك معاناة من نوع آخر تعرض لها "كبلر" أحد علماء الفلك المشهورين، فرغم حبه للكنيسة وأمنيته أن يكون أحد قساوستها وأحد رجال دينها وبذل كل ما يستطيع لتحقيق ذلك الحلم؛ إلا أن ذلك لم يشفع له عند الكنيسة، فالبلاد الكاثوليكية لم تقبله لاعتناقه البروتستانتية، والمناطق التي عاش فيها: مرّة ينتصر فيها الكاثوليك على البروتستانت فيطرد منها، ومرة ينتصر أهل مذهبه فينشط، وكانت أصعب لحظات


(١) العلم والإيمان في الغرب الحديث ص ٥٥، ٥٦.
(٢) انظر: الإيمان والتقدم العلمي، خالص جلبي وَهاني رزق ص ١٦٤ - ١٦٥، ٢٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>