للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعتبر مجموع هؤلاء المبتعثين أول طائفة من المسلمين تنظر بتوسع في "العلم" بصورته التي وصل إليها في الغرب، ولاسيّما أن مفهوم العلم قد تغير عندهم، وفي ذلك يقول أحد أشهر المبتعثين رفاعة الطهطاوي: "ولا نتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية. ." (١)، فإن مفهوم العلم يطلق عادة على العلوم الدنيوية، بينما ضَعُف إطلاقه عندهم على العلوم الدينية.

كان هؤلاء الشباب نواة المسلمين الأولى في التعرف على العلوم العصرية؛ لأن الأمر قبلهم كان محصورًا في الملّيين من يهود ونصارى الذين يتولون أمور الطب والحساب والصنائع، وهذه المجموعة قد وصلت أوروبا ولاسيّما فرنسا وهي تموج بأوضاع مثيرة أخطرها تحديد الموقف من الدين؛ إذ كانت آنذاك فترة القرار العلماني المتطرف النازع لرفض الدين تمامًا وتأسيس مستقبل جديد لا علاقة له بالدين، وغير المتطرف منهم يسمح بوجود الدين كمؤسسة على هامش المجتمع لبعض الأفراد الذين لا يستغنون عنها، وأخطر ما في ذلك: التوجه إلى تأسيس العلوم منفصلة عن الدين، بل توظف كثيرًا في ضرب المفاهيم الدينية، ففي هذا الجو الصاخب رمي بهؤلاء الشباب في أتون تلك المعركة التي حيرت أهلها فكيف بغيرهم!! فهل يستطيع هؤلاء الشباب استخلاص النافع من علوم الغرب وعدم التأثر بظاهرة العلمنة العلمية (٢)؟

لا نريد أن نُحمّل أولئك المبتعثين وحدهم ضعف الثمرة المرجوة وظهور بعض المشاكل المرتبطة بهم؛ فإنهم رغم كل ما يقال قد اجتهدوا رغم ضعف إمكانياتهم وصعوبة مغامرتهم في تلقي ما استطاعوا من معارف ونقلها بحسب المستطاع إلى بلادهم، ولكن الذي يتحمل التبعة أكثر من غيره هو صاحب المشروع وصاحب سياسة الابتعاث، فإن الابتعاث لم يوضع في صلب رؤية واضحة المعالم يُقصد بها تقدم الأمة الإِسلامية ولو في ذاك الجزء من بلاد


= ص ١٢٩ - ١٣٢، وانظر: دولة محمَّد علي والغرب -الاستحواذ والاستقلال، حسن الضيقة ص ٢٣١ - ٢٣٢.
(١) تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص ٢٥٨.
(٢) انظر: واقعنا المعاصر، محمَّد قطب ص ٢٠٧ - ٢١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>