وقد تحولت هذه التجربة -وللأسف- إلى نموذج يحتذى في أغلب المتطلعين للصدارة في العالم الإِسلامي، حيث قام كل والٍ بإيجاد نموذج تعليمي مواز ومنافس للتعليم القديم (١) مع أنهما كانا في الحضارة الإِسلامية صنوان لا يفترقان، فعلوم الدنيا هي من العلوم المطلوبة شرعًا إذا احتاجتها الأمة فلِمَ تُفصل عن معاهد المسلمين العريقة بحيث يتحكم فيها الأجانب لفترة طويلة من الزمن؟! المهم بأن هذا النموذج السائد قد أضرّ بالعِلْمين وبمؤسستيهما مع الزمن:
أما التعليم الجديد وعلومه، فقد أضرّها نموّها داخل المحيط العسكري ولأهداف عسكرية، فخرجت بذلك عن دائرة المؤسسات العلمية بما تعنيه تلك المؤسسات من توفر التصور والمناهج والعلماء والبحوث والمكتبات والحركة العلمية، وما يصاحب ذلك من نُموّ علمي ومعرفي يخدم العلم ذاته، فلم تنمُ كعلم وإنما كانت معاهد للوظائف لا للعلوم، بخلاف الأزهر فهو معهد للعلم، حتى وإن لم يجد الخريج من الأزهر وظيفة، فالمهم هو العلم: تعليمه ونشره وتحصيله ويأتي ما سوى ذلك تبعًا، ولذا كان طلاب العلم يأتون إليه من شرق الأرض وغربها دون أن تكون عندهم آمال سوى العلم ذاته.
أيضًا تضررت العلوم الحديثة قيميًا، فكل علم لا يتحرك إلا في أجواء قيمية وثقافية وتصورية، وهذه القيم من روح الإِسلام، فهو الذي يعطيها الجانب المعنوي ويغذيها بالروح ويعطيها الأطر العامة والتصورات الكلية، ولكن هذه العلوم قد ارتبطت من جهة بالأجانب: إدارة وتدريسًا، وارتبطت بحضارة تنزع للمادية والعلمانية داخل التصور الغربي الحديث، ومن هذا الخليط نشأت مثل هذه العلوم بعيدًا عن المؤسسات العلمية الإِسلامية، ونشأت جسمًا غريبًا داخل جسد الأمة، مما صعّب تقبله وفتح الشبهات حوله والريبة فيه والخوف منه.
أما التعليم القديم، فقد أضرته التجربة -أو النموذج الجديد- بعملية الإقصاء له وإهماله ووضع منافس له يستقطب الطلاب، ويستحوذ عليهم ويحولهم مع الأيام إلى منافسين للعلم المورث، بل رافضين له ونابذين، مع أن الأصل هو وجود التعاون والتكامل بين العلوم الدينية والدنيوية.
(١) مما يقال بأن السلطان العثماني محمود الثاني قلده في ذلك فما بالك بغيره، انظر: الفصل السابق ص ٥٠٧.