لا شك أن هذا الحوار بما فيه من معلومات يدل على أن المشكلة قد كبرت داخل الإطار النصراني العربي في بلاد الشام، وأن إثارتها قد صنع مشكلة شائكة، فبعض رجال الدين عندهم يؤكد ثبات الأرض معتمدًا على نصوص من كتبهم، فمن صدق بالعلوم الحديثة واقتنع بها، فسيقع في إشكال مع الوحي الذي بين أيديهم، وقد يصل به الأمر إلى التكذيب بالوحي، أو الاعتقاد بأن الوحي لا يحوي شيئًا عن هذه المسألة، ومن كان جاهلًا بحال العلوم الحديثة، فسيقع في حيرة، فهو يثق في أهل الدين ويثق في العلوم العصرية، فلِمَ هذا التعارض!
وإن كانت المشكلة كما قلنا بين النصارى، فإن شررها سيمتد إلى المسلمين، فإن هذه الحوارات والمجادلات بين طوائف النصارى حول المسألة قد دفعت بمشكلة توهم التعارض بين "الدين والعلوم الحديثة" إلى الواجهة، صحيح أن أدلة النصارى تواجهها عقبة الصحة أولًا ثم النص ثانيًا، مع العلم بأن بعض ما استدلوا به هو مما علمنا بصحته لورود ما يؤكده في شرعنا، ففي هذه الحال هل دلالة هذا النص الصحيح قطعية أم ظاهرة؟ وهل الظاهر له معارض؟ وهل ما فهموا من النص صحيح أم لا؟
والذي يعنينا هنا أن مثل هذا الحوار أوجد مشكلة جديدة في مجتمعنا المسلم -غير ما سبق أول الحديث- وهو الاختلاف حول قضية: هل هناك تعارض بين الوحي والعلوم العصرية؟ ولا شك أن إدخال الظني من العلوم العصرية أو العلوم التي لا حاجة لنا بها آنذاك أو لا نجد من نثق فيه فيبين لنا صحتها، كل ذلك وغيره أسهم في إبراز مشكلة توهم التعارض، وإلا لو اكتفت الأمة في أول نهضتها باليقيني النافع، وأخرت غيره، حتى تملك تلك العلوم وتكون قادرة على صناعتها وليس نقلها فقط لربما انشغل الناس بالنافع، وبقي لنا وقت للإبداع العلمي والصناعي.
نعود مرة أخرى لتفاعلات المسألة، فبعد ردِّ جاء المجلة عاود (١) رجل الدين النصراني السابق مكاتبة المجلة حول قول من قال: "إن ثبوت الأرض وعدم دورانها هو مغلوط وفاسد دينًا وعلمًا"، ويظهر أن بعض هذه الردود جاءت
(١) كانت المقالة الأولى في العدد الثامن سنة (١٨٧٦ م)، انظر: المجلة ١/ ١٧٤، والمقالة الثانية في العدد الثاني عشر سنة (١٨٧٧ م)، انظر: ١/ ١٦٧.