إن مشروعات التحديث التي دعا لها "الطهطاوي" و"التونسي" وغيرهما قد أغفلها الاستعمار وتيار التغريب، وتحول التحديث إلى تغريب، من ذلك التحديث في أبواب العلوم والمعارف إذ تحولت إلى مشروع لنقل ثقافة غربية لا تناسبنا ولا نحتاجها، فما هو تيار التغريب؟ وما أثره في الانحراف بالعلوم الحديثة؟ وما المشكلات التي صنعها في بنية تعليمنا الحديث؟
يأتي في التمهيد موضوع التعريف بتيارات التغريب، وهو خليط غير متجانس من آثار التنوع الغربي المؤثر، فكل مجموعة قلّدت مذهبًا أو مدرسة أو تيارًا أو غير ذلك مما عُرف في الغرب، يجمعها أن وجهتها نحو الغرب ورؤوس أصحابها قد استدارت إلى حضارتهم وثقافتهم.
لم يكن يتم الاختراق الغربي بكل توجهاته للعالم الإِسلامي إلا بإيجاد فئة تتقبله وتهيئ أرضية مناسبة للحركة، وقد اتخذ ذلك عدّة طرق: الاهتمام بالمبتعثين ورعايتهم، فمنهم من نجح الغرب في التأثير عليه وتوظيفه، ومنهم من نجا ونجح في مقاومة ذلك. ومن الطرق تلك الإرساليات المختلفة من الغرب: إما دينية بنشاطها العلمي والصحفي، أو منظمات سرية كالماسونية التي برزت في القرن (١٣/ ١٩). ونجح ذلك في استقطاب عدد من المسلمين، ليكونوا مجموعة أوسع خدمت الوجود الاستعماري فيما بعد، وخدمها هو أيضًا.
بدأت معالم نشاطهم في تكوين جمعيات سياسية واجتماعية وفكرية، تضم بداخلها النوعيات المتغربة أو تلك القابلة لعملية التغريب، بدأ ذلك في نهاية القرن (١٣/ ١٩) فانتشرت جمعياتهم ولاسيما في مصر والشام، ومع أول القرن (١٤/ ٢٠) تحول بعضها إلى أحزاب سياسية مهيأة للوصول إلى السلطة، ومن ثمّ توجيه مسيرة البلاد، وقد دعم الاستعمار بعض هذه الأحزاب وهيأ لها الوصول إلى السلطة في أثناء وجوده وأعطاها الأمر بعد خروجه.
يمكن تصنيف هذه الجمعيات والأحزاب التغريبية في ثلاثة اتجاهات وهي: قومية وأبرزها كان في بلاد والشام، وليبرالية وأشهرها انطلق من مصر مع حزب الأمة، وثالثها ماركسية واشتراكية وكانت تاريخيًا بعد الأولين، ولاسيما بعد نجاح الثورة البلشفية، فكان لهذه الاتجاهات الثلاثة أحزابها وجمعياتها، وكان هدفها الوصول إلى السلطة وقيادة البلاد التي هي فيه، وكان لها مفكروها وتياراتها الفكرية وصحافتها وإعلامها ومنابرها، وكان لها نشاطها الكبير وقت