والإيمان بالغيب، وهكذا تكون العقلية الإِسلامية تجمع بين الغيب الحق الذي لا يمكن التكذيب به وبين التعامل مع عالم الحس الذي يسير بتسخير الرب العليم الحكيم، "إن العقلية الإِسلامية عقلية "غيبية علمية"؛ لأن "الغيبية" هي "العلمية" بشهادة "العلم" والواقع .. أما التنكر للغيب فهو "الجهلية" التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة!
وإن العقلية الإِسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابته .. فلا يفوت المسلم "العلم" البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة؛ وهي أن هنالك غيبًا لا يُطلع الله عليه أحدًا، إلا من شاء بالقدر الذي يشاء ..
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها "الفرد" فيتجاوز مرتبة "الحيوان" الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة "الإنسان" الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود، الذي تدركه الحواس -أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس-، وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض، فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود؛ وأن وراء الكون .. ظاهره وخافيه .. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده .. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول. . . . لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان -كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا "تقدمية"! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميزة هي صفة:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. . . . والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين. . . . إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي