يتقابل أمران عند المنحرفين في هذا الباب: أحدهما من جهة تصورهم لقدرة الله، والآخر من جهة تصورهم للإحكام والضرورة البادية في الطبيعة؛ فالأصل في الأول الإيمان بما وصف الله به نفسه وبما وصفته به رسله، وهم تصوروا قدرته بمقياسهم الخاص، فانحرفوا في ذلك، والأصل في الثاني أن يؤمن الإنسان بأن الكون من خلق الله، وأنه لا يخرج عن ملك الله، وأن ما فيه من إحكام دليل على أن من خلقه عليم حكيم، وأنه قادر على خرقه بقدرته لحكمة يعلمها سبحانه، وكما دلّ إحكام الكون على خالقه، فإن المعجزات تدل على كمال قدرته وعلى نبوة الأنبياء.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية:"وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره -ويسمونها: الآيات- لكن كثيرًا من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة.
فنقول: صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول: العلم والقدرة، والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغنى، والأول أجود. وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين. وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعام: ٥٠] وكذلك قال نوح -عليه السلام-: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)} [هود: ٣١]. فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض. وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، كلاهما يتبرأ من ذلك" (١).
وقد ورد ذكر القدرة كثيرًا في القرآن، وجاءت مقرونة بالعلم، وجاءت عقب ذكر ملكه للسماوات والأرض، وهي بيّنة ظاهرة لا ينكرها إلا جاحد، وقبل النظر في ما ورد من آيات أذكر معناها عند أهل العلم: