للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والثاني: أن قوله: {ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩]. وعقد اليمين ما التزم فعلاً مستقبلاً يتردد بين حنث وبر، فخرجت اليمين الغموس من الأيمان المعقودة، فلم يلزم بها كفارة، ثم ختم الآية بقوله: {واحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: ٨٩] يعني في المستقبل، من الحنث.

واستدلوا بما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف يمينًا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان".

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليمين الغموس تدع الديار بلاقع من أهلها" فأخبر بحكمها ولم يوجب الكفارة فيها.

والقياس أنها يمين على ماض فلم تجب بها كفارة كاللغو.

ولأنها يمين محظورة، فلم تجب بها كفارة كاليمين بالمخلوقات.

قالوا: ولأن اقتران اليمين بالحنث يمنع من انعقادها؛ لأن حدوثه فيها يدفع عقدها كالرضاع لما رفع النكاح إذا طرأ منها انعقاده إذا تقدم.

ودليلنا: قول الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: ٨٩] بعد صفة الكفارة، فاقتضى الظاهر لزومها في كل يمين، وقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:٢٢٥] ولغو اليمين ما سبق به لسان الحالف من غير قصد ولا نية، واليمين الغموس مقصودة، فكان بها مؤاخذًا ومؤاخذته بها توجب تكفيرها، فإن منعوا من تسمية الغموس يمينًا بطل منعهم بقول الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ولَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ} [التوبة: ٧٤] وقال تعالى: {ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنكُمْ ومَا هُم مِّنكُمْ} [التوبة:٥٦].

ومن القياس: أنها يمين بالله تعالى قصدها مختارًا، فوجب إذا خالفها بفعله أن تلزمه الكفارة كالمستقبل ولانه أحد نوعي اليمين، فوجب أن ينقسم إلى بر وحنث كالمستقبل؛ ولأن كل ما كان في غير اليمين كذبًا كان في اليمين حنثًا كالمستقبل؛ ولأنها يمين تتعلق بالحنث المستقبل، فوجب أن تتعلق بالحنث الماضي كاليمين بالطلاق والعتاق؛ لأنه لو حلف بالطلاق والعتاق لقد دخل الدار، ولم يدخلها لزمه الطلاق والعتاق.

وكما لو حلف ليدخلها في المستقبل، فلم يدخلها وهذا وفاقًا كذلك في اليمين بالله؛ ولأن وجوب الكفارة في الأيمان أعم في المأثم، لأنها قد تجب فيما يأثم به ولا يأثم، فلما لحقه المأثم في الغموس كان بوجوب الكفارة أولى.

فأما الجواب عن قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:٢٢٥] فهو أن لغو اليمين ما لم يقصد منها على ما سنذكره، فأما المقصود بالعقد فخارج عن حكم اللغو

<<  <  ج: ص:  >  >>