منه شابّ فرنسي يبسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدّم لهم قطعة من الشكلاطة ثم يعود إلى مخبئه. إنسانية قد توجد حتى في الدبّابات!
ورأيت في هؤلاء الصِّبية تلميذاً في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيراً جداً ما أظنّه قد أكمل عامه السابع، فدعوتُه فأقبل حتى أخذ بيدي وجعل يرفع رأسه إليّ يحاول أن يتثبّت من وجهي، فقلت: لماذا عملتم هذا يا بابا؟ فقال: أخذوا فخغي الباغودي (يريد فخري البارودي). قلت: ومن قال لك ذلك؟ قال: أمي، وقالت لي: هاللي يموت بالغصاص (أي بالرصاص) يغوح (أي يروح) عالجنة. قلت: وإذا أرجعوا فخري البارودي هل ترضى؟ قال: لا، خلي يغوحوا (يروحوا) ما بدنا إياهم (يريد: فليذهب هؤلاء أيضاً، لا نريدهم).
فسكتّ فقال: أستاذ ليش الإسلام ما لهم عسكغ (أي عسكر)؟ فأصابتني كلمته في القلب، ووجدت كأنّ شيئاً جاشت به نفسي ثم صعد إلى رأسي ثم وجدته في قصبة أنفي وآماق عيني، ودقّ قلبي دقاً شديداً فتجلّدت ومسحت عيني وحككت أنفي وقلت له: أنتم يا بابا عسكر الإسلام. قال: نحن صغار. قلت: ستكبرون يا بابا، أنتم أحسن منّا، نحن لمّا كنّا صغاراً كنّا نخشى البُعْبُع (١) ونخشى القط الأسود، وأنتم تهجمون على الدبابة، فالمستقبل لكم لا لهم.
* * *
(١) البُعْبع كلمة تخوّف بها الجاهلاتُ من الأمهات الصغارَ من الأولاد.