الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة قد فرّ من مدرسته وحقيبتُه ما تزال معلّقة بعنقه وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبيّ اللحام وأجير الخبّاز، قد اتحدوا جميعاً وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة، وهي تطلق النار وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة، التي تشبه الآلة السحرية التي عزف عليها الفارابي في مجلس سيف الدولة فأضحك وأبكى، يطلقون هذه الأنشودة البلدية المعروفة:
وِصْغارنا تِحْمِلْ خَناجِرْ
وِكْبارنا عَ الحَرْب واصِلْ
يا بِالوطَنْ يا بِالكَفَنْ
فوقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص، حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها.
هل تريدون أن أقسم لكم أن هذا المشهد كان واقعاً وأنني كنت ممّن رآه؟ رأيت الأطفال قد تسلقوا الدبّابة وهي تطلق النار من مدافعها، فلما رأى الناس ذلك اشتعل الدم في عروقهم وفي أقحاف رؤوسهم، فأنشدوا أنشودة الموت المعروفة بالشام:«يا سباعَ البرِّ حومِي ...» وهم يُرعِدون بها فتهتزّ من جَهْجَتها (١) الغوطة ويرتجف قاسيون، وأقبلوا كالسيل الدفّاع. ولكنهم رأوا عجباً، رأوا الدبابة قد كفّت عن الضرب، ثم انفتح برجها وخرج
(١) يقال: جَهْجَه الأبطال وتَجَهْجَوا؛ أي صاحوا في الحرب (مجاهد).