المركزية، وأحاضر أحياناً في دار المعلّمين العليا وأدرّس في دار العلوم في الأعظمية (وهي كلّية الشريعة الآن)، وهي في دار قَوراء واسعة جميلة ذات أشجار ملحَقة بمسجد أبي حنيفة، وأنام فيها وحدي. فأرِقتُ ليلة رأس السنة وطار النوم من عينَيّ، وجلست أفكّر فيما مضى من عمري، فخطرَت لي خواطر جمعتها في مقالة كان عنوانها «بيني وبين نفسي»، نُشرت في الرسالة في مستهلّ ذلك العام، قلت فيها:
نظرت من النافذة فإذا كل شيء أراه نائم، هذه النخلة التي تقوم حِيال شبّاكي، وقبّة الأعظمية التي تبدو من ورائها، ودجلة التي تجري صامتة مَهيبة، والقمر الذي يغسل ماءها بشعاعه. وإذا على الطريق شبح يسير منهوكاً. على الطريق الذي لا يمتدّ في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء ولا يخترق البساتين، ولكنه يلفّ السهل والوعر والجبل والبحر والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها.
على الطريق الطويل الطويل، الذي يلوح كخطّ أبيض يغيب أوله في ظلام الأزل ويختفي آخره في ضباب الأبد. رأيت شبحاً يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحاً يصيح بالدنيا النائمة: تيقّظي، إن العام يرحل الآن.
ففتحَت النخلة عينيها ونظرَت، فلما رأته قالت: قد رأيت عشرات مثله تأتي وتذهب، فلم تبدّل شيئاً. الفأس لا تزال باقية، والإنسان لا يزال ينتظر تمري ليسلبني هذا التمر، ثم إذا قنط منّي