للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كافأني بلذع النار وجعلني وَقوداً لها. فما لي وللعام الراحل؟ وأغمضَت النخلة عينيها فنامت ولم تكترث.

ونظرَت القبّة، فلما أبصرَته قالت: قد رأيت مئات مثله تجيء وتروح ولم تبدّل شيئاً، فهذا النخيل قائم حولي كما كان، والشمس تطلع عليّ كل يوم وتغيب، والنجوم تسطع فوقي كل ليلة، والأرض تنتظرني، تريد أن أهرم فتأخذ أحجاري إليها وتأكلني. كل شيء على حاله لم يتبدّل إلاّ الإنسان: كان الخليفة يمشي تحتي ويخطر بين أساطيني في حُلَل المجد وأردية الجلال، إن أمر أطاعت الدنيا، وإن نادى لبّى الجميع، وإن مال مالت الأرض، وكان الناس يطوفون به أجلّة أمجاداً عبّاداً أذلّة لله وملوكاً أعزّة على الناس، فأصبحت وحيدة منعزلة لا أرى إلاّ هذه الفئات من العامّة المساكين الذين تعرّوا من كلّ جاه إلاّ جاه العبادة، وحسبكم به من جاه، ومجد إلاّ مجد الآخرة وهو أعظم الأمجاد، فما لي وللعام الراحل؟ وأغمضَت عينيها وعادت تحلم ولم تكترث.

وتنبّهَت دجلة ونظرَت، فلما رأته قالت: قد رأيت مثله ألوفاً تمرّ في هذا الطريق فلم تعمل في الكون شيئاً، ولم يتغير إلاّ الإنسان. كانت تقوم على شاطئيّ القصور الفخمة، تتوّج هامَها العظمةُ ويحلّ أرجاءها الجلال، ويمثل في أبهائها المجد ويقف على بابها التاريخ، يصدر عنها ويكتب حديثها، وتنبثق منها أشعة الحضارة والفنّ، وتسطع منها أنوار العلم والأدب، وتُشرِق منها أشعّة الخير والدين، وتومض في شرفاتها وأروِقتها العمائم التي كانت على أشرف رؤوس وأحفلها بالفضائل والعلوم. فما الذي

<<  <  ج: ص:  >  >>