للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لمّا احتلّ الفرنسيون جامع تنكز وجعلوه مدرسة عسكرية، ذهب الشيخ ووراءه تلامذته، والأمّة من وراء تلاميذه. ذهب بشيخوخته وخطوه البطيء حتى دخل الباب، فلم يستطع الجندي الحارس أن يمنعه مع أن سلاحه بيده، بل خبّر رؤساءه. فلما جاء منهم من جاء لم يجدوا غازياً مقتحماً ليردّوه ولا محارباً مسلّحاً لينازلوه، بل وجدوا شيخاً كبيراً مشرق الوجه نوراني الجبين مضيء الشيبة، خفيض الصوت قليل الكلام، فلما سألوه: ماذا يريد؟ قال للترجمان: يابَهْ (وكانت كلمته هذه يخاطب بها الصغير والكبير) قُل له: هذا مسجد، والمساجد للصلاة. وقد جئنا نصلّي فيه، فكم يكفيكم من الأيام لتُخلُوه لنا؟

وأُخليَ وعاد مسجداً كما كان. كانت له هذه المنزلة لمّا كان العلماء هم قادة الأمة تسير وراءهم وتأتمر بأمرهم، كلّما نزلَت بها نازلة أسرعَت إليهم لتسألهم رأيهم، لأنها تعلم أنهم لا يرون لها إلاّ ما يوافق الشرع ويُرضي الله. كانت للعلماء هذه المنزلة لمّا كانوا يريدون الله والدار الآخرة، ما كانت الدنيا أكبرَ همهم ولا منتهى علمهم. ماتت في نفوسهم شهوة الجاه في الدنيا فأعطاهم الله الجاه كله في الدنيا، وأرادوا رضا الله ولو بما يسخط الناس فرضي الله عنهم وأرضى عنهم الناس، وابتعدوا عن أبواب الحُكّام وزهدوا فيما بأيديهم، فسعى إلى أبوابهم الحُكّام وعرضوا عليهم كل ما في أيديهم. لم يكن يرى أحدُهم في الطاغية الجبّار الذي يرتجف الناس خوفاً منه ومن بطشه، لم يكن أحدهم يرى فيه إلاّ بشراً مثله، سيقوم غداً معه يوم الحساب بين يدَي ربّ الأرباب، فلا يقول له إلاّ كلمة الحقّ يصدع بها، ولكن في أدب. فإذا رآه

<<  <  ج: ص:  >  >>