ولمّا ذهبت إلى مصر للدراسة في دار العلوم سنة ١٩٢٨ (١٣٤٧هـ)، تركت فكري كلّه في المدرسة الأمينية. وكانت دمشق عندي هي بيتي والمدرسة الأمينية، لم تُلهِني مصر وما وجدت فيها عن متابعة الاهتمام بقضايا المدرسة ومشكلاتها.
أفنيت في هذه المدرسة شبابي وكهولتي واستفرغت فيها جلّ نشاطي واندفاعي بين تلاميذ ما تابع منهم -فيما بعد- طريقَ العلم والدراسة إلاّ قليل. نثرت بِذاري بوادٍ غير ذي زرع وأعملت محراثي في أرض قَفر لا تحفظ بذراً ولا تُنبِت زهراً ولا ثمراً.
ولو أني بدأت كما بدأ غيري ممّن جاء بعدي، وأُتيحَ له أن يذهب إلى فرنسا ويرجع منها متأبطاً شهادة من فرنسا أو مصاحباً قرينة من بنات فرنسا، لكنت مثلهم! والحمد لله على أنني لم أكُن مثلهم، لكنني لمّا اضطُررت إلى قبول الوظيفة أسرعت فأخذت أول ما قرب إليّ. كانوا راضين بأن يُعطوني الوظيفة التي أطلبها ليُسكِتوني ويتّقوا لساني وقلمي. كانت الوظيفة مثل بناء ذي طبقات على سفح الجبل، إن دخلت إليه من الباب القانوني: باب الشارع الأسفل وصلت إلى الطبقة الأولى من البناء، وإذا صعدت الجبل وجئت من الباب الخلفي، من باب الوساطات، دخلت إلى الطبقة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ثم صعدت منها.
استنفدت في هذه المدرسة أكثر قوّتي وأَرَقْتُ فيها أكبر طاقتي، وكان ذلك كله عبثاً، كان جهداً ضائعاً. لقد استحدثت فيها (كما قلت لكم من قبل، ولا أعيد عليكم) فنوناً في الإلقاء، كنت إذا علّمت الطلاّبَ إلقاء قصيدة لَحّنتها لهم كما يلحّن