للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويتحدّث عن الغناء والطرب، فما ظننت إلاّ أنه سيغني. ولقد سمعتُه حين أذّن فسمعت صوتاً حلواً ورنّة عذبة، ولكني وجدته يشير إلى شابّ ما فتح منذ الليلة فمه، ولا تكلّم بكلمة، فظننتُه يمزح! غير أنه بالغ في إطراء الشابّ، وشاركه في ذلك من اعتمد ذوقه واطمئنّ إلى حكمه وارتضى فهمه.

وما لبث الشابّ أن غنّى وبدأ بـ «يا ليل» بصوت ناعم حلو فأطربني صوته وأعجبَتني نغمته، ولم أَعِبْ عليه إلاّ خُفوته ونعومته، فطربتُ. وأنا رجل طَروب، فقال لي القوم: انتظر، إنك لم تسمع شيئاً. وانتظرت فإذا هو يدور بالنغمة دورة، وإذا له صوت قوي ضخم ولكنه واطئ كقرار محمد عبد الوهاب، وإن كانت له قوّة صوت صالح عبد الحيّ أو الشيخ صبحي الإمام في الشام، ثم يعلو به ويعلو حتى يرتفع ارتفاعاً هائلاً والصوت لا يزال على قوّته ورجولته، فبالغت في الإعجاب فقالوا: انتظر، إن بعد هذا لشيئاً. فسكتّ أنتظر، وما أظنّ أن بعد هذا شيئاً يكون، فإذا الشابّ (عادل القربي) يقفز من هذا العلو إلى طبقة أعلى وأرفع، وإذا له صوت صبيّ برقّته وحدّته وصفائه، وتركَنا في هذا الأفق العالي وهبط بصوته، بآهة من آهاته، إلى القرار. ثم تهاوت آهته واختفَت، حتى لقد سمعت الهاء الساكنة ينطق بها قلبه. ثم سكت سكتة، فلا والله ما ظننّا إلاّ أن الدنيا قد دارت بنا، وثارت في نفوسنا عواصف من العواطف الدفينة والذِّكَر الكامنة لا يعلمها إلاّ الله. وكانت لحظة صمت أدركت فيها ما تفعل الموسيقى بألباب السامعين. ثم تنبّه القوم فزُلزِل المكان بالتصفيق والهتاف.

<<  <  ج: ص:  >  >>