لما جاوزنا أبا الشامات (١) وأصحرنا، ونظرت بين يديّ وعن يميني وعن شمالي فلم أجد إلا الصحراء الصامتة الرهيبة الموحِشة، ووجدت دمشق (التي أحببتها ولقيت فيها من يحبني، وألِفتها وتركت في كل بقعة منها قطعةً من حياتي وطائفةً من ذكرياتي) قد اختفت وراء الأفق وتضاءل «قاسِيونها» وصَغُرَ حتى ما يبدو منه إلا خيال علويّ يلوح في حاشية السماء له وميض ولمعان، أحسست بلوعة الفراق، فخفق قلبي خفقاناً شديداً:
كأن القلبَ ليلةَ قيل يُغدَى ... بليلى العامريّةِ أو يُراحُ
قَطاةٌ غرّها شَرَكٌ فباتَتْ ... تُعالِجُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ
وخالطني حزن عميق وشعور مبهم أعرفه من نفسي كلما سافرت سفراً بعيداً، شعورُ مَن يجد الموت ويبصره بعينه!
ولِمَ لا؟ وهل الحياة إلا أن تقيم في المكان الذي تألف وترى الناس الذين تحب، وتصل ماضيك بحاضرك بصورة تراها أو نغمة تسمعها أو بقعة تحتلها؟ وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه وبالذكريات والآمال؟ وهل الموت إلا أن ينبتر ممّا يحيط به وينقطع عن كل ما يعرف، ويقدُم على بلد مجهول وحياة غريبة عنه لا عهد له بها ولا نبأ عنده منها؟
أوَليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده، وطعامه
(١) من هنا إلى آخر هذه الحلقة منقولٌ بتصرف يسير من مقالة «من دمشق إلى بغداد» التي نشرها علي الطنطاوي سنة ١٩٣٦، وهي في كتاب «بغداد» (مجاهد).