وشرابه، وجيئته وذهابه، وحياةٌ باطنة في أفكاره وذكرياته، وآماله وآلامه، وميوله وعواطفه؟ أوَليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس، فلا يحيا إلا بها ولا يقوم إلا عليها، كما أن الشجرة لا تحيا إلا بجذورها الممتدة في جوف الأرض المختفية في بطن الثرى؛ فإذا انقطع المرء عن عادته وابتعد عن أهله وصحابته لم ينفعه أنه لا يزال يقوم ويقعد ويأكل ويشرب، كما أن الشجرة لا تنفعها أغصانها وفروعها إذا هي بُتَّت من أرضها وقُطعت من أصلها وفُصلت عن جذرها؟
وأحسب أن الله -جلّ وعزّ- ما قرن الموت بالإخراج من الديار وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله التاركين أوطانَهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضربٌ من ضروب الموت ولونٌ من ألوانه، فإن «تعددت الألوانُ فالموت واحدُ»!
وازدحمت في نفسي صور حياتي في دمشق وحُبّبت إليّ أضعافَ ما كنت أحبها، ومرت أمامي صور إخوتي وأهلي وإخواني، وذكرت سهراتنا البيتية ومجالسنا الأدبية، وهذه الحفلات الوداعية الكثيرة التي أُقيمت تكريماً لي قبل أن أعمل شيئاً أستحقّ عليه التكريم، وأُفيضَ عليّ فيها من النعوت ما ليس فيّ ولا أستحقّ الأقلّ منه. وذكرت من دمشق كل حبيب إليّ جميل في عيني، فازددت بها تعلقاً، ووددت لو أني أبَيْتُ فلم أذهب ولم أتغرّب.
وكانت الصحراء قد امتدّت من حولنا وأحدقت بنا وصرنا في قبضتها لا شأن لنا ولا خطر، ورجعَت هذه السيارات الفخمة