منها، وأنتظر أن أرى بعينَيّ ما كنت قرأته عنها في الكتب.
قال الخطيب في «تاريخ بغداد»: "لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها وتميّز خواصّها وعوامها، وعظيم أقطارها وسعة أطرافها، وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشعوبها ومحالّها وأسواقها، وطِيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها وصحّة ربيعها وخريفها، وزيادة سكانها".
وبعد، فها أنا ذا على جسر بغداد في نشوة من خمرة الذكرى. أذكر ما لا سبيل إلى تلخيصه وأحسّ ما لا طاقة لي على وصفه. وقد قال أبو الوليد، قال لي شعبة: أرأيت جسر بغداد؟ قلت: لا. قال: فكأنك لم ترَ الدنيا.
أمّا أنا فرأيت جسر بغداد ورأيت الدنيا. لا أقول إنه أعظم من جسر إسماعيل أو الزمالك في مصر، ولا هو أجلّ وأضخم من الجسور التي عرفتها في البلاد التي رأيتها، ولكن لجسر بغداد سراً آخر يعرفه كل من نظر في كتب الأدب والتاريخ. هذا الذي جازه القُوّاد الفاتحون والفقهاء والمحدّثون والشعراء والماجنون. هذا الذي وقف عليه الرشيد والمأمون، وأبو حنيفة والشافعي، والفضل بن دينار، ومطيع وأبو نواس، وعبد الله بن طاهر ويزيد ابن مزيد. وشهد جلال الخلافة، وعظمة العلم، وروعة الزهد، وضحك المجون، وقوّة الجيش. وجرى من فوقه نهر التاريخ كما يجري من تحته نهر دجلة، وتداعت على جوانبه القرون.