للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليهم وتحفظ أسرارهم وتمنحهم الخلوة الآمنة، وتغمر نفوسهم بالجمال والشعر حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد.

وكانت تُغضي عن هذا النخيل العاشق وقد تعانق كل زوجين منه وتلامسا بالشفاه واستسلما إلى الغيبة الآمنة، وعن هذه القصور التي تفيّأت ظلاله سكرى بحُمرة الجمال، وقد ضمّت أحشاءها على حياة لذّة وادِعة ملؤها الحبّ.

كانت دجلة وأخوها الفرات جمال العراق ونعمته وحياته.

* * *

هذا الذي سرقه الشيخ من الشابّ، هذا الذي قدّمت به مقالتي عن ثورة دجلة التي كتبتها من نحو خمسين سنة (١)، سرقتها لأنني لا أستطيع أن أكتب بمثل هذا القلم (أو لا أُحبّ اليوم أن أكتب بمثل هذا القلم). ولكل سنّ زيّها وسماتها، ولكل سِنّ أسلوبها وطريقتها.

كنت أذهب كلّ مساء إلى جسر مود أنا وأنور، وربما صحبنا بعض إخواننا، ننحدر إليه من الرصافة حتى نبلغ ضفّة الكرخ فنصعد إليها، وكنت أشعر وأنا أنزل وأصعد الجسر كأنني في وادٍ من أودية بلادي الحبيبة، حتى نصل إلى الصالحية فنسلك شوارعها إلى المطار.


(١) مقالة «ثورة دجلة» المنشورة سنة ١٩٣٧، وهي في كتاب «بغداد». وأكثر ما يأتي في هذه الحلقة إلى آخرها جزء من تلك المقالة بتغيير قليل وزيادات (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>