للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لما بنى المنصور بغداد جعل لها ثلاثة جسور، ثم زِيد جسران، ثم تخرّبت وبقيَت على جسرين اثنين. وكذلك كانت لمّا جئتها. كانت الجسور قائمة على سفن طافية على وجه الماء، لم تكن هذه الدعائم الراسخة في الأرض ولم تكن هذه الجسور الثابتة العريضة. وكنت أقرأ ذلك في كتب الأدب فلا أفهمه، ففي كتاب «الفرج بعد الشدّة» للقاضي التنوخي في قصّة إبراهيم بن المهدي (لما اختفى وتوارى من المأمون خوفاً من أن تنزل به العقوبة) لحقه جندي كان يعرفه من الأيام القليلة التي ادّعى فيها الخلافة، فدفعه فوقع في بعض سفن الجسر. ما كنت أعرف ما سفن الجسر حتى رأيتها.

ذهبنا في ذلك المساء، مساء الخميس الرابع من صفر سنة ١٣٥٦ كما كنّا نذهب كلّ يوم، فإذا الأرض قد بُدّلت غير الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه قد أمسى هضبة نتسلّقها؛ صار أعلى من الشارع وقد كان تحته! وإذا الناس يُقبِلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الرّوعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً يبدو كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة ولا تموج فيه موجة، قد علا وارتفع وعاد ثائراً هائجاً له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي الصغار.

وإذا هو قد نسي سنه ووقاره وأضاع حِلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويقرع الأرض بقدمَيه ويضرب بقبضتيه القويتين المخيفتين أبنية الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة التي أُقيمت لتثبيت الجسر العائم، والتي تزن

<<  <  ج: ص:  >  >>