دعوني إليها لهربت منها، ذلك لأن طبعي يأبى عليّ العمل الجماعي، إلاّ أن أُدعى إلى خطبة أخطبها أو محاضرة ألقيها أو رأي أُبديه ثم أمضي في سبيلي، وما انتسبت في حياتي إلى حزب ولا جمعية ولا هيئة، وكل ما عملته عملته وحدي صادراً عن إيماني وقناعتي، فإن وافق خُطّة قوم كنت معهم في هذا العمل وحده الذي وافق خُطّتي، فإن انقضى العمل المشترَك مضيت في طريقي ومضى كلّ واحد منهم في طريقه. كالذي يريد أن يسافر من مكّة إلى الشام فيرافق من يريد السفر إلى القاهرة، يمشي معه في الطريق المشترَك من مكّة إلى جدة، ثم يتابع كلّ منهما طريقه إلى غايته.
وممّا ركّب الله في طبعي أنني طري باللطف أَبيّ على العنف، فمن جاءني من باب اللين والمسايرة والرفق غلبني، ومن جاءني من طريق التحدي والمكاسرة نازلته فكسرني أو كسرته.
ولما كنت أدرّس في الثانوية المركزية أول عهدي ببغداد دخل عليّ الصف (الفصل) يوماً شابّ في مثل سِنّي أو يكبرني قليلاً. وكان من عادتي في دروسي أن أدع الباب مفتوحاً، فمن شاء أن يدخل دخل ومن أراد من طلاّبي أن يخرج خرج، لا أمنعه ولا أجبره على أن يستمع إليّ بالعصا. ولو فتح الطالب كتاب الكيمياء في درس الأدب، بل لو قرأ قصّة من القصص لما قلت له شيئاً، ما كنت أمنع إلاّ شيئاً واحداً هو أن يُحدِث الطالب صوتاً يعكّر عليّ صفاء درسي، فإن لم يكن منه صوت فَعَل ما أراد، ممّا لا يحرّمه شرع ولا قانون ولا عُرف.