للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقلت مرّة لمن معي: ألا يمكن أن نصل إلى أعماق هذا الوادي؟ وكان اسمه وادي شحرور. قالوا: بلى، فهل أنت مستعدّ؟ قلت: نعم، فلنهبط.

وهبطنا، وأمضينا نحواً من ساعتين ونحن ننزل، لا نمشي على طريق مزفّت ولا نسلك مسلكاً سهلاً، بل نعتسف اعتسافاً، حتّى إذا حسبنا أننا بلغنا القاع بدت لنا دونه قيعان، حتّى انتهينا إلى قرارة الوادي، إلى مكان ما فيه إلاّ نبع ماء وثلاثة أبيات أو أربعة، ودُكّان كدكاكين القرى فيه من كل شيء شيءٌ قليل. فشربنا من النبع وطلبنا ما نأكله، فلم نجد عنده إلاّ خبزاً وبيضاً مسلوقاً وبعض الفاكهة، فطلب ثمن الرغيف ما يعدل ثمن عشرين رغيفاً في بيروت وثمن البيضة ما نشتري به الدجاجة! وساومناه وجادلناه فأبى إلاّ ما أراد، فانتحينا ناحية وجمعنا كل ما في جيوبنا وأكياسنا فلم يبلغ ما طلبه. وكنّا في مثل حال المضطرّ. قالوا: ماذا نصنع؟ نكاد نهلك من الجوع. فقلت لهم: إن لمثلنا أن يأكل الميتة أو أن يغصب ما يُقيم حياته غصباً، فأفهموه أننا رضينا، فإذا أكلنا فعلنا ما يُرضي ربنا ويريح ضميرنا.

فأعطانا وأكلنا. فلما شبعنا قلنا: ندفع لك ما معنا. وكان يزيد ثلاثة أضعاف ثمن ما أكلنا، فأبى. فقلنا له: لقد أكلنا الطعام، فإمّا أن تأخذ، وإمّا أن تذهب فتأتينا بالشرطة، وإما أن تقاتلنا. فصاح فجمع علينا خمسة من أصحابه من هذه البيوت التي تقوم حول النبع، فنظروا فإذا نحن أكثر منهم عدداً، ويبدو أننا أقوى جسداً. وأدرك أن لا طاقة له بحربنا، وليس هناك حكومة يشكون إليها، فاكتفى بما جرى على لسانه من سبّنا وسبّ آبائنا ومن ولدنا. وكان

<<  <  ج: ص:  >  >>