للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أفتح صِمام الأمان (١) لآلامي المحبوسة في صدري، لأنفّس عنه حتّى لا تفجّره الآلام.

كنت أكتب للأدب، أشتري رضا القُرّاء وإعجابهم، كنت أبالغ أحياناً وأزخرف الحقيقة وأجمّلها، أمّا اليوم فسأكتب شيئاً آخر. لا أقول إني فقدت الحسّ حتّى لا أفرّق بين المدح والذمّ ولا بين الخيبة والنجاح، فأنا كغيري من الناس أحبّ أن أُمدَح وأن أنجح وأن أكون الذي تتوجّه إليه الأنظار وتشير إليه الأيدي، ولكن الأيام علّمتني أن هذا كله مؤقَّت: تمثال من الثلج كالذي يصنعه الأولاد في البلاد الباردة. تمثال جميل ولكنه يعيش ريثما تطلع عليه الشمس وتحمى، فإذا هو يسيل ماءً يختلط بتراب الأرض فيصير وحلاً.

لقد فتحت بالأمس كتاباً فوجدت فيه وردة جافّة، ما أمسكت بها حتّى تفتّتَت وصارت كالهباء. كانت يوماً وردة نضرة حيّة فوّاحة العطر فصنع هذا بها الزمانُ، لست أدري الآن ما ذكراها ولا لماذا وضعتها في هذا المكان. إنها كمومياء مصرية لفتاة يراها الباحث عن الآثار، ولا يدري من هي ولا يعرف ماذا كانت؟ ماذا كانت حياتها؟ بماذا كانت تفكّر وكيف كانت تشعر؟ هل كانت سعيدة أم غطّى عليها الشقاء فعاشت بلا أمل ولا رجاء؟ لم يبقَ من هذا كله إلاّ هذه البقايا الجامدة من جثّة هامدة.

لو فتحت القبر على أجمل الجميلات التي يخرّ أبطال الرجال على الرّكَب من هيبة جمالها، ويبذلون كرائم الأموال


(١) صِمام على وزن كِتاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>