للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأوقاف هنا من عشرين سنة، الغالب علينا الاشتغال بالفقه والعربية، إلاّ أن أخي ناجي يَنْظم الشعر، ويسهل عليه حتّى لكأنه يرتجله ارتجالاً. وله قصائد منشورة من خمسين سنة لم يجمعها، وكان (وأحسب أنه لا يزال) يحفظ من الشعر ما يندر أن يحفظ أحدٌ مثلَه في هذه الأيام. وأخواي الصغيران عبد الغني وسعيد غلب عليهما الاشتغال بالرياضيات (القديمة والحديثة) والعلوم، وإن كان لهما نصيب كبير من علوم الدين والعربية.

* * *

كنّا نرى أوربّا ناراً تحرق ونوراً يهدي، فكان المشايخ من أهلي وأساتذتي يرون نارها: يخشون حَرّها ويخافون ضُرّها، وكان الشباب يرجون نورها ويريدون خيرها. كنّا نتناقش في أمر هذه الحضارة الجديدة وهي بعيدة عنّا، وإن كانت بوادرها قد وصلت إلينا. فلمّا نجح أخي في المسابقة رأيت الخطر قد وصل إلى بيتي، بل إلى بيتنا، فلم يكن بيتي وحدي بل كان بيتي وبيت إخوتي. وكنت -بحكم أني الأكبر وأني استلمت مجداف الزورق بعد موت أبي عليه رحمة الله- أحسّ أنهم أولادي، وإن لم يكن بيني وبين أكثرهم في السنّ ما يسوّغ لي أبوّتهم. فكيف ألقي بولدي في هُوّةٍ مظلمة لست أدري أيخرج سالماً منها أم يهلك فيها؟

كانت محاربة هذه الحضارة والوقوف دون تغلغلها في حياتنا شبه مستحيلة، لأنها دخلت علينا على غير استئذان منّا، وصرنا أقرب في بيوتنا وفي أسواقنا وفي أزيائنا وفي طرائق معيشتنا، بل وفي تفكيرنا، صرنا أقرب إلى الأجانب منّا إلى ما كان عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>