لي فيه؟ وهَبُوني عُدتُ، فهل أرى في الشام دار شبابي ومنازل أهلي وأصحابي؟ إن عُدت إليها فهل تعود أيامي فيها؟ هل أقف على القبرَين المتجاورَين النائمَين متعانقَين على كتف الساقية في «الدحداح» كما كان يتعانق ساكناهما في الحياة؟ إن فيهما أبي وأمي. لقد دفنت مسرّات حياتي في هذين الجدثين، أصبحتُ كنبتة قُطعت جذورها. وجدَث ثالث فيه مَن هو أعزّ عليّ منهما، ما عرفت الطريق إليه حتّى أقف عليه. وماذا يفيدني أن أقف عليه وقد حال التراب بيني وبين قطعة عزيزة من قلبي أُودِعَت هذا القبر؟ إني لأريق الدمع كل ليلة أسقي بها هذا القبر البعيد في طرف بلاد الألمان حيث لا يراني أحد، ثم أنتبه فأجد أنه لا الدمع ينفع من فيه ولا الأحزان، ما ينفعني ولا ينفعها إلاّ الرحمة من الله والغفران. فاللهمّ قد أكرمتها بالشهادة فارزقها ثواب الشهداء، وارزقنا الصبر على البلاء.
* * *
لمّا دهمتني آلام المرض وذهبت إلى دمشق كان قد بقي من السنة الجامعية أقلّ من شهر، فكلّفني المفتي الشيخ توفيق خالد رحمه الله (وكان هو الرئيس الأعلى للكلّية) أن اختار من الشام من يدرّس الطلاّب عني هذا الشهر، فاخترت الصديق الشيخ صالح فرفور. وتذكرون أني لمّا كنت معلّماً في الغوطة واضطُررت أن أغيب عن المدرسة لحضور امتحاناتي في كلية الحقوق وكلته لينوب عنّي فيها ووافقَت وزارة المعارف.
خرجت من المستشفى فلم أعُد إلى بيروت، بل إلى بغداد!