ذلك أن السفر كلّ أسبوع من دمشق إلى بيروت ومن بيروت إلى دمشق لم يكن سهلاً ولا ميسوراً، لأن الطريق لم يكن قد سُوّي وعُدّل كما ترونه اليوم بل كان كله لفّات ودورات وطلعات ونزلات، ولم تكن السيارة مريحة مكيّفة كالتي ترونها اليوم، بل كانت في الصيف فرناً يلتهب وفي الشتاء صندوقاً مدفوناً في الثلج، وكانت كلها من سيارات فورد القديمة الصغيرة.
لذلك رضيت بالعودة إلى بغداد، إلى المدرسة الغربية. وكانت في المنزلة دون المدرسة المركزية التي كنت فيها، ولكن كرامة المرء بذاته، بعلمه وخلقه، لا بمنصبه ومرتّبه.
وكانت السنة مليئة بالأحداث؛ فالغضبة لسوريا والمظاهرة التي حدّثتكم حديثها لم تمرّ عليها عشرة أيام حتّى فوجئ الناس بموت الملك غازي، ثم تبيّنوا أنه ما مات موتاً ولكن قُتل قتلاً، وقال الناس إن الإنكليزي قتله بيديه وهو في لندن لم يبارحها وغازي في بغداد لم يخرج منها (١).
لا، ليست أُحْجِية (أي فزّورة) بل هي حقيقة، فيداه اللتان قتله بهما هما -كما كان يقول الناس- عبد الإله ونوري.
أمّا عبد الإله فلم أعرف عنه إلاّ القليل، وأما نوري باشا
(١) ذكرت كتب التاريخ أن الملك غازي كان شديد الاهتمام بالقضايا الوطنية والعربية، وأنه خصّصَ إذاعة من قصره تذيع البيانات الوطنية ضد الاستعمار الإنكليزي والاستعمار الفرنسي، ولذلك سعى الإنكليز إلى التخلص منه فقُتل في حادث غامض حين اصطدمت سيارته بعمود كهربائي مساء ٣ نيسان من عام ١٩٣٩ (مجاهد).