للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسطرت كلمات، ما كان لعقلي فيها عمل بل عملها كلها قلبي. فلما وصلت إلى الإذاعة نسيت الورقة التي كتبتها وقرأت ماكان مسطّراً في عيون من كانوا حولي. ولم تكن قد عُرفت هذه الأشرطة المسجّلة لأسمع ما قلت، ولكن خبّرني الناس أنني كنت أتكلم وأنا أبكي والناس يسمعون وهم يبكون. ثم حاولت أن أدوّن ما قلت، ولكن هيهات!

لقد أودعت مجلّة «الرسالة» (عدد ٢٧ صفر ١٣٥٨) صورة ميّتة عنها، تمثالاً لها يحكيها ويشبهها ولكنه من الشمع! الذي يقرؤها في «الرسالة» يقرأ معاني الكلمة التي قلتها وألفاظاً ربما كانت شبيهة بألفاظها، ولكن الذي سمع مني سمع هذه الألفاظ وهذه المعاني بشكل آخر وسمعها ثلاث مرّات: مرّة في صوتي الذي كان فيه معنى الحزن جلياً ظاهراً لا خفياً مستتراً، ولهجتي التي كانت تمثّل الحزن، لا تمثيل المسرح بل تمثيل المرآة لمن هو قائم أمامها، وظروف البلد التي كانت كلها ظروف الحزن جعلت قلوب السامعين متفتحة للازدياد من الحزن.

لقد كان شيء إذا شكّ فيه من يقرأ وصفه الآن لَما كان مبالغاً في هذا الشكّ، لأن الأمر كان غريباً، ولكن واقعاً. إني لأفكّر الآن: فيمَ كان هذا كله وما الذي سبّبه؟ هل كان غازي المثل الأعلى للحاكم الصالح؟ هل كان الصورة الكاملة للإنسان المثالي؟ أنا ما لقيته ولا أدري ماذا كان في خلواته، ماذا كانت صلته بربه؟ ماذا كان حفاظه على فضائل أمته ووفاؤه لأمجاد ماضيه؟ هل كان شاباً همّه المتع الرخيصة يشغله سفساف الأمور عن معاليها أم كان صالحاً يراقب ربه ويخدم شعبه؟

<<  <  ج: ص:  >  >>