بغداد كلها، وفي هذا اليوم خرج موكب الطلاّب، الموكب العظيم الذي كان حديث الناس وكان عجباً من العجب.
انتقلَت (١) فيه بغداد كلها فاستقرّت في شارع الرشيد (الذي لم يكن في بغداد شارع غيره) وشارع غازي الذي افتُتح يومئذ حديثاً، لترى موكب الفتوّة الذي يصل بين غازي والرشيد، فينشئ المجد الجديد على أساس المجد التليد.
وقد أتى الناس من كلّ فجّ عميق ليشهدوا بأعينهم كيف غدا أبناؤهم أسوداً صغاراً، أشبالاً يدافعون عن الحمى ويحمون العرين، ويبصرون ببصائرهم المستقبل المجيد والآتي الزاهر، وقد أشرق فجره من عيون أولئك الفتيان التي تبرق بريقَ الحماسة والإخلاص، وقلوبهم التي تنطوي على التضحية والثبات، وألسنتهم وهي تنشد النشيد الذي يوقظ الأموات ويصبّ الحياة في الصخر الصلد، وأيديهم التي تهزّ البنادق، تقول بلسان حالها: إننا نحقق ما نقول.
أقبل الناس على شارع الرشيد قبل أن تقبل الشمس بوجهها على بغداد، فملؤوا جوانبه، واستأجروا مداخل المخازن وشرفات المنازل والفنادق، حتّى بلغت أجرة المقعد الواحد ربع دينار. وربع دينار في تلك الأيام يعدل أربعة دنانير في أيامنا. ولا ترى مع هذا في شرفة مقعداً ولا على رصيف مكاناً. وتعلّق
(١) من هنا إلى قوله "ما النصر إلاّ من عند الله" (في وسط الصفحة ١٦٧) هو نص المقالة التي نُشرت في «الرسالة» في تلك السنة، وهي مقالة «يوم الفتوّة في بغداد» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).