للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس بالأعمدة وأشرفوا من الأسطحة، وكانت الوجوه في بشر وانطلاق، كما كان الكون متهلّلاً باسماً في ذلك اليوم المشهود، والشمس بازغة ساطعة والأُنس في الأرض وفي السماء. وانتظر الناس ساعات، لا يملّون ولا يضجرون.

وكنت في داري في الأعظمية، أهمّ بالنزول إلى بغداد ثم يردعني خوف الزحام وكراهية الاختلاط، وخشية أن يبتلعني هذا اللجّ البشري الهائل. وكنت أنظر في ركام الدفاتر التي تبلغ المئات، والتي جمع فيها كلّ تلميذ ما يستطيع من الأخطاء والهنات، دفاتر الامتحانات، لأقوم بتصحيحها وتقدير درجاتها، فلا أمسّها ولا أدنو منها وإنما أنصرف عنها أفكّر في بلدي وأهلي. كنت بجسدي في بغداد ولكن قلبي في الشام.

أأهجع آمناً في بغداد وآنس مطمئنّاً، وأهلي في الشام يمشون على النار، لا يدرون أإلى موت أو حياة؟ أأستمتع بالجمال وأنفق الأماسي الهادئة في مسارب الأعظمية أساير الشط وأتفيّأ ظلال النخيل، والشام قد ثار من تحته البركان وزُلزلَت منه الأركان، وهبّ أهله هبّة المستميت يريدون الحياة كاملة أو الشهادة في سبيل الله؟ فكّرت في ذلك فامتلأت نفسي كآبة وحسرة، فقمت على غير شعور مني وانطلقت إلى بغداد. وما أدراك -ذلك اليومَ- ما بغداد؟

بلغت باب المعظم، وعهدي بالمكان أن فيه شوارع وميداناً فإذا هو بحر من الخلائق يموج بعضها ببعض، وقد غرق في هذا البحر الشارعُ واختفى فيه الميدان. فوقفت حائراً لا أتقدم ولا

<<  <  ج: ص:  >  >>