فيدفئ القريب منه. فلما عُيّنت في النبك حذّرني مَن يعرفها من شدّة بردها، فاشتريت مدفأة (صوبا) من أصغر الأنواع وأرخصها فأخذتها معي.
وبلغ من شدة البرد في الشتاء تلك السنة في دمشق (فضلاً عن النبك) أن الماء الذي ينزل من الحنفيات كان يتجمّد فيصير عموداً صغيراً من الجليد. وكانت المدافئ تُوقَد بالحطب، فكان من المألوف في الشام أن ربّ البيت عندما يأتي بالمؤونة للشتاء: بالرز والسمن والزيت والسكّر وما تحتاج إليه الدار، كان يأتي بأحمال الحطب، فمِن الأسر من يكتفي بحمل الجَمَل الواحد ومنهم من يأتي بالحملَين والثلاثة والأربعة؛ يُنزِلونها أمام البيت، ثم يأتي الكسّارون (وكان أكثرهم من الألبان، أي الأرناؤوط)، وكانوا ذوي لِحى بيضاء، شيوخاً ولكنهم أقوياء أتقياء، يجرّدون فؤوسهم ويتولّون تكسير الحطب، وكلما صغّروا القطع كان أجرهم أعلى وكان ثمن الحطب أغلى. ثم ارتقت الحال بعد ذلك فصار الحطب يُباع مكسّراً.
ومن عجائب أحداث الزمان أنني كنت قبل ذلك بسنوات (كما عرفتم) مدرّساً في البصرة في صيف حارّ شديد الحرارة، فخرج ثلاثة من الناس معهم إفريقي أسوَد اللون، فتعطّلَت السيارة وانقطعوا في البرّية فماتوا عطشاً من شدّة الحرّ، ولمّا ذهبوا يتتبعون أثرهم وجدوا الرجل الأول منهم قد مات فدفنه أصحابه، والثاني دُفن دفناً غير كامل، ووجدوا الإفريقي الأسود المتعوِّد على لذع الحرارة وعلى مسّ الشمس قد سار شوطاً بعيداً وحده،