للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وهذا ما أصنعه الآن) أنظر، فما أجده في ذاكرتي أنقله منها إلى الورق، أو إلى المسجّلة، أثبته بصوتي في شريطها فيطبعه أخونا طاهر أبو بكر، أحسن الله إليه وإلى الجريدة وأصحابها.

وفي الذاكرة ما لا أُحصيه من الحوادث والمشاعر وأوصاف الناس وأخبارهم، ولكنها لا تحضر إلاّ من طريق تداعي الأفكار؛ فالشيء يُذكّر بمثيله أو بنقيضه، أو بما هو مقترن به، أو بما هو متفرع عنه أو مرتبط به.

وبعد، فهل رأيتم حبّات العقد الجميل، مصفوفة فيه متناسقة، مؤتلفة ومختلفة، يأتي جمالها من اختلافها وائتلافها لأن «الضدّ يُظهر حُسنَه الضدُّ» ... فانقطع خيط العقد وتناثرت حبّاته، فأقبلت تبحث عنها، تجمعها، فأمسكت بأقلّها وضاع منك أكثرها، تدحرج حتّى سقط في النهر أو وقع في البئر.

هذا مثال ذكرياتي في دوما وما سيأتي بعدها؛ انقطع خيط التاريخ الذي يربطها فلم أعُد أعرف المتأخر منها من المتقدّم، ولقد غاب عني الكثير منها، طواه النسيان، وما طواه النسيان قلّما ينشره الإنسان. لذلك أسرد ما يحضرني من ذكريات دوما، لا أراعي فيه ترتيب السنين لأني صرت أعجز عن أن أراعيه.

أهل دوما مشتغلون بالزراعة، مُقبِلون عليها بارعون فيها، يُحبّون الأرض فيأخذون منها بمقدار ما يعطونها، فهم عاملون جادّون، قلّما يعرفون اللهو وقلّما يفرّطون في ساعات العمر. لذلك لم يَجِد القانون الذي ابتدعوه بعد ذلك بزمن طويل وسمّوه

<<  <  ج: ص:  >  >>