للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالعرب، عرف أيامهم (١) وروى أشعارهم، وكان المفرد العَلَم في بابته (٢). لا أعرف نظيراً له في العلماء، تحسّ إذ تجالسه وتسمع منه كأن الأصمعي وأبا عبيدة قد تمثّلا لك في جبّته، وكأن ما كنت تقرؤه من أخبار الرواة والحُفّاظ قد عاد لك حتى رأيتَه بالعيان.

لقد كثر اليوم الأساتذة من حملة الشهادات وأصحاب الدكتورات، ولكن ذلك الطراز لم يعُد له وجود.

أما درسه فما حضرت -على كثرة ما حضرت من الدروس- درساً أكثر منه حياة وأبقى في نفس سامعه أثراً. إن نغمته لا تزال إلى اليوم في أذني وكلماته في قلبي.

كنّا ندخل الصف في مثل «العَراضة»: أصوات عالية متداخلة وضجيج صاخب مزعج، وكان المدرّسون يجدون مشقّة في إسكات المتكلمين وتهدئة الصاخبين. فإذا كان درس الشيخ المبارك رأى التلاميذُ البابَ قد انفرج مصراعاه وبدا من بينهما جبين عريض من فوقه خط أبيض، ثم ظهر وجه الشيخ وعمامته وجلجل صوته (الذي كان يُعرَف من بين أصوات البشر جميعاً بضخامته وجَهارته) بصدر بيت من الشعر، فيسكت الطلاب ليسمعوا، فيخطو الخطوة الثانية فيكون في الصف (أي الفصل) ويُتِمّ البيت، ويشرع بالدرس.

والغريب أنه لم يكُن يدرّسنا العربية بل الفقه، يُقرِئُنا «مراقي


(١) أيام العرب: حروبها.
(٢) يقال «هو من بابة فلان» إذا كان من أشكاله ونظرائه.

<<  <  ج: ص:  >  >>