منذ أكرمني الله فجاورت في مكّة من إحدى وعشرين سنة. خرجنا من عرفات بعد غروب الشمس فما بلغنا مكّة إلاّ ضحى الغد، لأننا لم نستطع الوقوف في مِنى. ما قطعناه في أربع عشرة ساعة قطعه حُجّاج هذا الموسم في ثلاث ساعات أو ساعتين، وبعضهم قطعه في أقلّ من ساعة.
ولكن لماذا أحدّث بهذا الآن؟ وما الذي يستفيده القُرّاء من هذا الحديث؟ أمّا الذي يستفيده القرّاء فهو إذكاء الشعور بما يعيشون فيه من نعيم لِما بلغوه من تقدّم وارتقاء. إنه لا يعرف قيمة الرخاء إلاّ من عاش في الشدّة، ولا لذّة الوجدان إلاّ من قاسى وجع القلب بالحرمان.
من كان يظنّ قبل خمسين سنة لمّا جئت مكّة أول مرّة، بل من كان يتوهّم قبل عشر سنين أننا سنخرق الجبال بالأنفاق، وأننا نساير السحب في الفضاء بالطيارات الحوّامات، ونشرب الماء عذباً مطهّراً بارداً بلا ثمن؟
من عرف (كما عرفتُ) شظف الماضي، حتّى القريب منه، أدرك -كما أدركت- عظيم نعمة الله علينا بلين الحاضر ونعومته ورخائه. إنكم هنا دون بلاد الله جميعاً في نعمة من الأمان ومن السعة ومن الغنى: غِنى اليد بالمال، وغِنى القلب بالإيمان، لمن أراد هذا الغِنى لقلبه ولم تُطغِه الحياة الدنيا. إنكم هنا في نعمة لا نظير لها، فسيحوا في الأرض كلها فلن تجدوا مثلها، فاستديموها واستزيدوا منها بشكر الله عليها: شكر اللسان، وشكر العمل، وشكر القلب الراضي عن الله.