للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمّا جواب سؤالي: لماذا أحدّث بهذا الآن؟ فلأن ذكر الماضي حلو في الأفواه ولو كان هذا الماضي مرّ المذاق. إنّ فقده غلّفه بغلاف برّاق، يلمع من خلال الذكريات فيستهوي لمعانُه القلوبَ الشواعر، لذلك كان من أعظم فنون الشعر العربي القديم الوقوف على الأطلال وبكاء الديار. لا يبكي الشاعر حجراً ميّتاً كما زعم أبو نواس ساخراً، بل يبكي زماناً كان حياً، يبكي قطعة من عمره كانت فبانت.

لذلك قال دانته شاعر الطليان الأكبر: "إن ذكرى اللذّات الماضية تؤلمنا". ولعل مفهوم مخالفة كلامه صحيح أيضاً؛ فذكرى الآلام الماضية تسرّنا. تؤلمنا ذكرى اللذّات لأنها مقرونة بفَقْدها، وتسرنا الآلام لأنها مرتبطة بخلاصنا منها.

* * *

كيف أمضينا من عرفات إلى مكّة سنة ١٣٨٤ أربع عشرة ساعة؟ لم نكن قد عرفنا مكّة ولا أساليب الراحة في الحجّ مع استكمال فرائضه وواجباته. كنّا غرباء ولم نستعِن بأهل البلاد، بأهل مكّة الذين هم أدرى بشعابها، فاجتمعنا معشر المدرّسين من السوريين نحن وأسرنا، فبلغ عددنا أكثر من خمسين بين رجل وامرأة وكبير وصغير، ثم استأجرنا سيارة كبيرة من سيارات المطوّفين، فكان عملنا كعمل الروم (البيزنطيين) في معركة اليرموك لمّا ارتبطوا بالسلاسل عند الواقعة، فلما كانت الهزيمة وسقط واحد من المرتبطين جرهم معه جميعاً فوقعوا فيها!

اخترنا أولاً سائقاً بدا لنا أنه نشيط وأنه قوي متحمّس يفيض

<<  <  ج: ص:  >  >>