للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتوّة وشباباً، فلما كان الازدحام عند الإفاضة من عرفات وقفَت السيارات تسدّ الطريق صفوفاً أربعاً، تتحرّك الواحدة منها عشرة أذرع في ربع دقيقة لتقف بعد ذلك نصف ساعة تنتظر فسحة تمرّ منها. وكان يرى في الصف الذي هو على أيماننا أو الصف الذي على شمائلنا فرجة لسيارته فيخرج من صفه ليدخل فيها، فربما ضاع منه المكان الذي كان فيه ولم يصل إلى المكان الذي طلبه فوقفنا بين الصفّين! وكان إلى جنبه هراوة ضخمة ما عرفت المُراد من وضعها هنا، حتّى وجدته كُلّما كانت هَيعة أو كان نزاع، لا شأن له به ولا هو من أطرافه أو من مثيريه، ترك سيارته وأخذ هراوته واقتحم الخلاف ليقاتل فيه ينصر طائفة على طائفة، فيسير من هو أمامنا من السيارات فيخلو الطريق لنا، وصاحبنا السائق مشغول بمعركة لا ناقة له فيها ولا جَمَل ولا شاة ولا حَمَل! أي أنه كالذي يدعونه في الشام «غوّار الطّوشة». وهذا ليس اسماً للممثّل الهزلي المعروف، ولكنه لقب عندنا للذي يُدخِل نفسه في كل «طوشة»، أي في كل معركة، يغير فيجعل نفسه من أصحابها وما هو منها ولا أرب له فيها.

وطال ذلك من السائق حتّى ضاقت به صدورنا فقمنا عليه. والكثرة تغلب الشجاعة، وهو إن كان قوياً وكان معه عصاه فإنه لا يقوى على خمسين، ولو كان ثلثاهم من النساء والأطفال. فطردناه وجاؤونا بسائق آخر هادئ وساكن، ليس معه عصا وما به حركة، فانتقلنا من حرارة الصيف الملتهب إلى برودة الشتاء، ومن النار المُحرِقة إلى الصقيع المجمّد. كان هذا السائق الجديد نعسان كأنه لم ينَم من ليلتين، بل احذفوا كلمة «كأن» فهو لم ينَم

<<  <  ج: ص:  >  >>