للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا أستطيع أن أسرد كثيراً من الحوادث التي وقعَت لي في قضاء دوما، لبُعد العهد بها ولأنني لم أدوّن شيئاً منها، ولكن من غرائبها ما يصدّق قولَ الله عز وجل (ولا يحتاج قوله إلى تصديق): {ولوْ كانَ من عندِ غَيرِ اللهِ لَوَجدوا فيه اخْتِلافاً كثيراً}؛ فالقوانين الوضعيّة مهما كبُرَت عقول واضعيها واتسعَت مداركهم وامتدّت أنظارهم تختلف فيما بينها، فإن لم يكن بينها اختلاف فإن أوضاع الناس وأعرافهم تتبدّل دائماً، فتتخلف القوانين عن مسايرة أوضاع الناس فتحتاج إلى تعديل.

وعندي على ذلك شواهد تستعصي على الحصر، من أعجبها أنه جاءني مرّة رجل في قضية إرث. وكان القانون المتّبَع عندنا أن يُبرز قيد النفوس من دائرة الأحوال المدنية قبل رفع الدعوى. فلما جاء بالقيد وجدنا فيه أنه قد توفّي من عشر سنين! فقلت له: إنك ميت في القيد الرسمي، فكيف ترفع الدعوى؟

فحسب أنها مزحة مني، واستسهل هو ومن معه الأمر وقال: ما قيمة قيد يكذّبه الواقع؟ ألست تراني حياً أمامك؟ قلت: بلى، لكن القيد يحتاج إلى تصحيح. قال: إذن صحّحوا القيد. قلت: والقانون لا يسمح بتصحيحه إلاّ بحكم من المحكمة بعد دعوى تُقام لديها، فمن يُقيم الدعوى؟ قال: أنا طبعاً. قلت: ولكنك ميت رسمياً فكيف أسمع الدعوى من ميت؟ قال: وما العمل؟ قلت: لا أدري والله!

الرجل حيّ ماثل أمامي وكل من معه يعرفه ويوقن بأنه لا يزال حياً، والقيد الرسمي يقول إنه ميت. فهل أشكّ في حياته وهو

<<  <  ج: ص:  >  >>