للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كنّا نعرف القتل انتقاماً، ونعرفه أخذاً بالثأر شفاء لما في الصدر، ونعرفه في ساعة الغضب التي تُعمي البصر وتعطّل الفكر، ولكن ما عرفنا هذا النوع من الاغتيال لأنه ليس من فعل الرجال ولا من سمات الأبطال. ولعلّ أول قتيل سياسي عرفناه هو الرجل الكبير، السياسي البارع الخطيب العالِم الدكتور عبدالرحمن شهبندر، كان مقتله كما أذكر سنة ١٩٤٠ ميلادية، وقد مررت به ونسيت أن أحدّثكم حديثه كما نسيت غير ذلك من الأحداث، فإذا عادت إلى ذهني عدت إليها فحدّثت بها.

ذكّرني بمقتله كلمة نُقلت إليّ عن رجل يُقيم هنا كان قد اتُّهِم مع من اتّهِم بقتل الشهبندر، زعم الناقل أنه افتخر في مجلس بأنه أحد قتلة الشهبندر. وما أحسب ذلك حقاً، وما أظنّ أن مسلماً يفتخر بقتل مسلم بعد وعيد الله عزّ وجلّ بأنه يجعله في النار خالداً فيها. والشهبندر ما كان في تقوى عمر بن عبد العزيز ولا أحمد بن حنبل، ولكنه ما خرج من الإسلام ولا ارتكب ما يُستباح به دمه الحرام. وكان قتله إثماً كبيراً، زعموا أنه كان بفتوى من جماعة صالحين ولكنهم من الجاهلين، نُقلت إليهم عنه أشياء فلم يتحقّقوا منها ولم يتثبّتوا من صحّتها، وأفتوا بقتله وما كانوا مُفتِين، وقضوا عليه وما كانوا قُضاة، فعلق إثم هذه الفتوى بأعناقهم. وسمع ذلك شباب ليست لهم عقول فنفّذوا هذا الجرم، يحسبون أنهم يُحسِنون صنعاً، مع أن دم مسلم واحد قُتل بلا حقّ أكبر عند الله من هدم ركن الكعبة.

حضرت المحاكمة كلها في المدة التي فصلَت بين انشغالي بالتعليم وبين انتسابي للقضاء (وقد اشتغلت فيها بالمحاماة).

<<  <  ج: ص:  >  >>