للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا القاضي الذي كان مستوراً بالتجمّل لم يخلّف بعده ما يكفي لإيصاله إلى القبر. ولقد يكون في هذا الذي أقول إيلام لأسرة الفقيد، ولكنني أقوله بإكبار وإعجاب، وأحني هذا الرأس (الذي ما انحنى لغير الله) أمام نعش الرجل الذي استطاع أن يكون قاضياً نزيهاً أميناً وهو يكابد الفقر عمره كلّه ويتجرّعه ويصبر عليه، حتّى عاش مستوراً ومات إن شاء الله شهيداً (١).

وتولّى القُضاة والمحامون نعيَه وإخراجه، ومشَت الجنازة صامتة رهيبة على السنّة، لا صراخ ولا نشيد ولا أكاليل، كذلك جعلتها وأنا الذي تولى أمرها. ثم قمت أخطب ولا أعلم ماذا أقول، لأن أطفاله كانوا أمامي، فكان يشغلني التفكير في مصيرهم عن صوغ آيات البيان. كنت أفكّر فيهم فأخشى ألاّ تفي هذه الأمة للرجل الذي وفى لها وأن تدع أولاده يحتاجون من بعده لأن ضميره ودينه منعاه من أن يدّخر مالاً يجمعه من حرام، وأخاف أن تضيق خزانة الدولة بنفقات دراسة ولده الذي يدرس في الخارج ونفقات معيشة أولاده الذين بقوا في الشام، وألاّ تجود بالمال لمن جاد بالدم، وأن تتمسّك بحرفية قانون التقاعد وتُعطي أسرة الفقيد ما لا يكفيها ثمن الخبز، فيرى ذلك القُضاةُ فلا يبقى فيهم قاضٍ نزيه لئلاّ يشحد أولادُه بعد موته. إني والله لا أزال في روعة الصدمة الأولى فاعذروني اليوم.

* * *


(١) من الإنصاف للتاريخ أن أقرر أنه أخطأ خطيئة كبيرة حين أبرق لحسني الزعيم يؤيده في إصدار القانون المدني وإلغاء «المجلة» التي كانت القانونَ الشرعي. ولكن رحمة الله لا تضيق عنه، رحمه الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>