للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأذكر (ويذكر الناس الذين كانوا معي) أننا صلّينا على الجنازة في تكية السلطان سليمان، فلما جاؤوا ليخرجوا بعدها من المسجد وقفت في الباب معترضاً، وكان يتقدمهم رئيس الوزراء وأحسبه كان الأستاذ صبري العسلي أو كان وزير العدل، وبينهم القُضاة والوجهاء، وألقيت كلمة فيهم سالت منها مدامعهم، ووصفت حال أولاده من بعده وقلت لهم: لن تخرجوا من هنا حتّى تتعهّدوا لي أمام نعشه بأنكم لن تضيّعوا أولاده بعده، وأنكم تجعلون لهم راتباً يكفيهم، ولا يفي هذا الراتب مهما كبر بما بذل أبوهم لبلده ولكم.

* * *

والكلمة الثانية التي وجدتها بين الأوراق ولا أعرف تاريخها هي:

عجب الناس أن مضى القاضي (العادل) ولم يخلّف وراءه ما يكفي لتغسيله وتكفينه وحمله للمقبرة رحمة الله عليه. يحسبون أنه وحده القاضي الذي عاش فقيراً ومات شهيداً. لا، لا تعجبوا فإن ثلاثة أرباع القُضاة هذه حالهم وإلى مثل هذا مآلهم؛ إنهم يعيشون عيش الفقراء ويموتون موت الشهداء، ولكن العلواني (غفر الله له) مات شهيد الواجب فبكَته كل عين في الشام وذكره فيها كل إنسان، وإن حاول المجرمون أن يُسكِتوا الألسنة بالمال، وسائر القُضاة يموتون كلّ يوم شهداء الصبر الصامت ولا يدري بهم أحد، ولا تبكيهم إلاّ عيون عارفيهم وأهليهم.

إنها إن بقيَت رواتب القُضاة على هذه الحال لم يبقَ في المحاكم قاضٍ يُعتمَد عليه. ومن أين نأتي بالقُضاة ونحن لا نزال

<<  <  ج: ص:  >  >>