للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهي مسلسلة خيالية كلها تمثيل في تمثيل!

فتصوّروا حالي وقد لبثت سنين أرى الرشوة والظلم والفساد ولا أقدر على إزالته ولا على تقليله، كانت عيني بصيرة بالمعايب ولكن يدي كانت قصيرة عن محوها، كنت أرى السيارة تسير على غير الطريق ولكن مِقوَدها بيد غيري، كنت أعرف المرض وعندي دواؤه ولكن لا سبيل إلى إيصاله إلى المريض. فالآن طالت يدي القصيرة وتسلّمت أنا مِقوَد السيارة، وفُتح لي الباب لأحمل إلى المريض العلاج.

إنها لذّة من أكبر اللَّذَاذات: أن ترى الباطل غالباً والحقّ مغلوباً وترى نفسك عاجزاً، ثم تُعطى القوّة على دحر الباطل وعلى نصرة الحقّ. لقد وجدت هذه اللذّة التي لا تعادلها اللذاذات مرتين: مرّة في النبك لمّا كنت قاضياً فيها، وقد مرّ بكم الخبر، وهذه الثانية.

إنها لذة، ولكن هل في الدنيا لذائذ لا تشوبها الآلام؟ هل يصفو لأحد نعيم في الدنيا؟ كنت أنظر فأرى نفسي مسؤولاً عما أقضي فيه. والقضاء مَركب صعب، لذلك فر منه كثير من كبار السلف وأبَوه واحتملوا في سبيل إبائهم الضرب والسجن والإيذاء، فإذا كان أبو حنيفة وكان سفيان الثوري وكان أمثالهما يهربون منه ويخافون أن يعجزوا عنه، فكيف أُقدم أنا مطمئنّاً عليه؟ اقرؤوا سيرة أبي حنيفة لمّا أُكرِهَ على القضاء. بل ارجعوا إلى كتاب «قُضاة الأندلس»، فإن فيه أحاديث كثيرة عمّن أبى دخول القضاء من العلماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>