ثم أرجع فأقول لنفسي: إذا فرّ الناس جميعاً من القضاء فمن يقوم به؟ ولقد قلت في محاضرة لي قديمة (١) أشرت إليها في هذه الذكريات: إن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها؛ ارفعوا القضاء من تاريخ الإنسان يهبطْ إلى درك البهائم ويأكل القويُّ من بني آدم الضعيفَ. وإن معنى الإنسانية وحقيقتها إنما تكون في الحياة المستقيمة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى فيها أحدٌ على أحد، والتي تُصان فيها الحَيَوات والحرّيات وتُحفَظ الدماء والأعراض، ويتحقّق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كلّه إلاّ بالقضاء.
والقضاء عند المسلمين أقوى الفرائض بعد الإيمان؛ إنه عبادة من العبادات، ففيه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السماوات والأرض. وصف الله به نفسه إذ قال:{فاللهُ يحكُمُ بينهم} وقال: {إنّ ربّكَ يقضي بينهم}، وأمر به نبيّه فقال:{وأنِ احكُمْ بينهم بما أنزَلَ اللهُ ولا تتّبعْ أهواءهم}، وجعل أنبياءه قُضاة بين خلقه:{إنّا أنزلنا التوراةَ فيها هُدىً ونورٌ يحكُمُ بها النبيّون}، وبه أثبت الله اسم الخلافة لداود حين قال له:{يا داوُد إنّا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ فاحكُم بينَ الناسِ بالحقِّ ولا تتّبعِ الهوى}. وقلت من قديم إن القضاء أول ما تَعقد عليه أمةٌ خناصرَها إذا عَدّت أمجادها ومفاخرها.
وإذا استُدلّ بفرد على خلائق شعب كان القاضي العالِم العادل أكبرَ دليل على مكارم شعبه ونبل أمته، وإذا كان بين
(١) أُلقِيَت في نادي «التمدّن الإسلامي» سنة ١٣٦١هـ.