للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأين أنا من جِواء الشعراء (١) الذين يحسبون أنهم يتعالون عن واقع الحياة؟ (٢)

إني أفكر فيما صرت إليه وما كنت في صغري فيه، فأرى الفضل لله أولاً وأخيراً، ولكن السبب فيه هؤلاء المدرّسون وأمثالهم (وإن قلّ أمثالهم) الذين قعدت بين أيديهم وأفدت منهم، في المدرسة مضطراً وفي حلقات المساجد مختاراً، أو قابلتهم في مسالك الحياة مصادفة، فكان لهم -لقوّة شخصياتهم، ونبل صفاتهم، وطهر قلوبهم- أعمق الأثر في فكري وفي عاطفتي وفي سلوكي وفي تكويني، لم أحسّ به في حينه ولكنْ عرفته بعد حين.

وإذا كان كثير من المعلمين يعملون ليأخذوا الراتب، وكثير من الطلاب يقرؤون ليحملوا الشهادة، وكان في المدرّسين المهمل المسيّب وكان فيهم زائغ القلب فاسد العقيدة، فقد كان أكثر معلمينا يعلموننا ابتغاء ثواب الله وحباً بنشر العلم، وكنا (أو كان أكثرنا) نتعلم حباً بتحصيل العلم ورغبة في الأجر من الله. وكانوا كالآباء لنا، يهتمون بدنيانا وأخرانا.

فهل تستكثرون عليّ أن أنضح بالدمع قبورَ رجال هم ملؤوا قلبي بالعاطفة التي ينبع منها الدمع؟ لقد بكيتهم يوم ماتوا بصوب


(١) كلمة جو جمعها جِواء لا أجواء، وما كان من الجمل بين أقواس فهو من مقالات لي قديمة.
(٢) أقصد ما يُسمّى «السريالية»، وأصلها «sur» أي فوق و «realite» أي الواقع.

<<  <  ج: ص:  >  >>