متفاصحاً بها. وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكره المتشدّقين المتفيقهين، أي الذين يملؤون بالكلام أفواههم ويدفعونه من شدقَيهم ولا يتكلّمون كما يتكلّم الناس. قال بعد هذه المقدّمة إنه يخاف أن يأكل حقّ الأيتام ويريد أن يخرج بأوكس النصيبين في الدنيا، يظلم نفسه لئلاّ يحمل إثم ظلم القاصرين، ولذلك قسم العمارة قسمَين متساويَين أعطى القُصَّر أفضلَهما (وهو القبو والدور الأرضي) وأخذ هو الدورَين العُلويّين.
وأنا -كما قلت لكم- أجهلُ الناس بأمثال هذه الأمور، ولكن الله لمّا استهديتُه ورجعت إليه مُقِراً بضعفي ألهمني وجهَ الصواب وبصّرني، فقلت له: اكتب ما تقول ووقّعْ على أن الاثنين متعادلان، وأنّ خيرهما ما اخترتَه للقاصرين. فكتب ذلك بخطّه ووقّعه. فلما صارت الورقة بيدي قلت له: أنا وكيل الأيتام، لذلك أدَعُ لك القسم الأغلى الذي هو القبو والدور الأرضي وآخذ القسم الأقلّ للقاصرين، وهو الدوران العُلويّان.
لا أزال أتذكّر بعد خمس وثلاثين سنة من هذا الحادث، لا أزال أتصور وجهه لمّا قلت له ذلك. لقد رأى أن الله قد كشف كيده وأنه أراد بالأيتام ضراً فوقع الضرر عليه، ولم يستطع أن يقول شيئاً. وخرج وقد كان هو الخاسر وكان الأيتام الرابحين.
وكان أحد إخواننا القُضاة الأذكياء الأقوياء قد أُحيلَ إلى التقاعد (على المعاش) فاختار مهنة المحاماة، وجاءني يوماً في قضية لأيتام كان أبوهم يعمل مخلّصاً جمركياً في محطّة الحجاز، وهي التي يبدأ منها الخطّ الحجازي في دمشق، وكان مقرّ كبار المخلّصين فيها.